وتقول بعض الروايات: "إنه مات حين جرب قطف وردة من حديقة قصر (ميزو) ليقدمها إلى السيدة المصرية نعمت علوي التي أحبها فوخزته شوكة منها أسالت دماءه وكانت سببا في دخوله إلى المستشفى، ثم وفاته بعدها بقليل".
ويحتل رينيه كارل فيلهلم يوهان يوزيف ماريا رايلكة الشهير بـراينر ماريا رايلكة (4 ديسمبر 1875 - 29 ديسمبر 1926) مكانة مهمة بين شعراء اللغة الألمانية، وهو نمساوي ويعد واحدا من أكثر شعراء الألمانية تميزا. ركّز في شعره على صعوبة التواصل في عصر الكفر والعزلة والقلق العميق، وهي المواضيع التي وضعته كشخصية انتقالية بين الشعر التقليدي وشعر الحداثة. أشهر أعماله بين قراء الإنجليزية هي "مرثيات دوينو" بالإنجليزية: Duino Elegies؛ أما أشهر أعماله النثرية فهما "رسائل إلى شاعر شاب" بالإنجليزية: Letters to a Young Poet) والسيرة شبه الذاتية "مفكرات مالتي لوريدس بريجي" (بالإنجليزية: The Notebooks of Malte Laurids Brigge). كما كتب أكثر من 400 قصيدة بالفرنسية، في حب موطنه الذي اختاره في كانتون فاليز في سويسرا، وقد ترجمت قصائده إلى اللغة العربية في طبعات عدة. ولا تزال قصة غرامه مع المصرية نعمت علوي تمثل لغزا كبيرا يحفل بالكثير من التفاصيل المثيرة التي تلائم جمالها الذي بلغ حدود الأسطورة. وكانت هذه السيدة هي أول امرأة شرقية تظهر صورتها على غلاف مجلة "فوج" الأمريكية الشهيرة، وذلك في عام 1929، وقد وصفتها المجلة آنذاك بـ"الوجه الفرعوني الذي يماثل وجوه التماثيل المصرية الملكية". وكانت نعمت علوي ابنة أحمد خيري باشا، وهو سياسي مصري من أصل تركي عمل وزيرا للمعارف في وزارة محمد شريف باشا بعد هزيمة الثورة العرابية ودخول الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
وكانت ابنته متزوجة من أحد أبناء الطبقة الأرستقراطية ذات الأصول التركية، واسمه عزيز علوي، ومن هذا الزوج أخذت اسمها الثاني على الطريقة الأوروبية، واشتهرت بهذا الاسم وليس باسمها الأصلي وهو نعمت خيري. وبينما كان ريلكة يقضى فترة من حياته في سويسرا، حيث كان كثيراً ما ينزل ضيفاً على بعض الأمراء والنبلاء، كانت علوي تقضي أيامها في فندق سافوي، بعيدا عن زوجها، الذي سرعان ما طلقها بسبب اسرافها ورغبتها الدائمة في العيش بعيدا عنه. وفي السادس من سبتمبر/أيلول من العام 1926، تعرف ريلكة، على نعمت، أو سعت بالأحرى السيدة المصرية نعمت علوي، التي كانت تقيم معه في فندق سافوي في سويسرا. وهو ما نقله إدمون جالو في كتاب صغير بعنوان: "الصداقة الأخيرة لراينر ماريا ريلكة"، صدر في باريس عام 1927.
وكانت نعمت منصرفة إلى قراءة كتاب ريلكة، "دفاتر مالت"، في ترجمته الفرنسية التي كانت تعرفها جيدا كلغة للقراءة، لما أبلغت صديقها جالو عن إعجابها بالكتاب. فما كان منه أن قال لها: "أديري ظهرك وانظري إلى هذا الرجل ذي الشاربين النازلين الذي يقرأ على مسافة خطوات منا، وحيدا، تحت هذه الشجرة! إنه ريلكة". فراحت وقدمت نفسها إليه، أو كما يصف جالو "كما لو كانت صاعقة قد نزلت عليها، أو أن شبح شاعر كبير توفي منذ قرون ظهر أمامها فجأة". وبسبب جمالها الشرقي استعاد ريلكة ولعه بالبلاد الشرقية، التي زارها من قبل، فقد زار أكثر من بلد عربي في العقد الأول من القرن العشرين، ووصل الى الجزائر في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1910، ثم عاد إلى نابولي في 6 يناير/كانون الثاني من عام 1911، بعد أن زار بسكرة والقنطرة وقرطاج وتونس والقيروان، وانتقل من نابولي في اليوم نفسه إلى مصر التي تجول في الكثير من مدنها وكتب أشعارا تمجد في نهر النيل ومعابد الأقصر، خاصة معبد الكرنك، وبقي في القاهرة حتى 25 مارس/آذار من العام نفسه، وغادر إلى الإسكندرية ثم عبر البحر المتوسط عائدا إلى أوروبا بعد زيارته التي استمرت لمصر ما يقرب من 100 يوم، وحمل معه نسخة من القرآن الكريم ظل يحتفظ بها حتى نهاية حياته، كما كتب قصيدة عن النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" ترجمها عبدالرحمن بدوي في كتابه "الأدب الألماني في نصف قرن، سلسلة عالم المعرفة 1994".
وطوال إقامته في المدن العربية كان يكتب إلى زوجته كلارا رسائل تضمنت انطباعاته عن هذه المدن، ومن ثم يفسر الكثير من مؤرخي سيرته بأن اللقاء مع نعمت علوي كان استعادة لسحر الشرق.
ويصفها ادمون جالو في كتابه عن ريلكة قائلا "جفنان أسمران متهدلان مستطيلان ففي اتجاه الوجهين تستخلص منهما نظرة عميقة رقيقة، تصدر عن أعماق عينيها اللتين بلون الذهب العميق جدا، الشبيه بالقطران، وشفتها السفلى تبرز بروزا خفيفا على غرار الشرقيات، وراحة يدها ضيقة سمينة وأصابعها طويلة". تطورت العلاقة بين الشاعر والسيدة المصرية التي قادت سيارتها السريعة وهو معها في نزهات كثيرة، وأهداها الشاعر مقدمة كتبها الشاعر الفرنسي بول فاليري لـديوان "أزهار الشر" لبودلير، كما دعاها إلى حفل في إحدى الكاتدرائيات. واشتدت الصلة بينهما في أيام قليلة، لدرجة أن ريلكة، لما كان مضطرا لمغادرة الفندق للاجتماع ببول فاليري، والتغيب ليوم كامل، وجد نفسه ملزما بكتابة رسالة سريعة إليها، قال فيها: "بودي أن أكون على مائدتك، وفي الوقت عينه مع الشاعر الكبير، ما سيبلغك أثره من دون شك". وفي 20 سبتمبر/أيلول يترك ريلكة فندقه في لوزان، ويتجه إلى سيير، ثم إلى "ميزو"، حيث أقام في السنوات الأخيرة، بعد أن دعا نعمت إلى الالتحاق به ساعة تشاء. هذا ما فعلته نعمت بعد أسبوع، إذ زارته بصحبة إحدى صديقاتها، ووقعت حادثة "الوردة الدامية" حيث قام ريلكة بقطف عدد من الورود من حديقته لكي يهديها إلى نعمت، إلا أنه جرح يده اليسرى. وكانت واقعة عابرة، إذ ضمّد ريلكة أصبعه الجريحة، وأمضى وقتا ممتعا طوال عطلة نهاية الأسبوع مع نعمت وصديقتها، في سيارتها السريعة، وقاموا بزيارة إحدى القرى، إلا أن حال إصبعه تدهورت في الأيام اللاحقة، وبدا الإرهاق على جسده، وبعد 3 شهور تبين أن سبب مرضه هو إصابته بمرض سرطان الدم. وظلت نعمت ترسل إليه الورود ما دعاه الى الكتابة إليها: "إنها الورود تثير الشياطين، والغرفة مليئة بهم". وهو ما يقوله لصديقة أخرى: "لا تأتي بعد اليوم، فغرفتي مليئة بالشياطين". ومن المثير أن بعض من تابعوا هذه القصة من الكتاب والصحفيين لم يستوعبوا أن يكون سرطان الدم هو المرض الذي أنهى حياة ريلكة، حيث يذكر الدكتور بديع حقي في كتابه "ريلكة - أمير شعراء ألمانيا" أن ريلكة مات بمرض حملته إليه نعمت علوي من زوجها السابق عزيز علوي. وفي كتابه "عباقرة ومجانين" يسخر الناقد الراحل رجاء النقاش من تفسير بديع حقي ويتساءل: "إذا كانت نعمت علوي هي التي نقلت إلى ريلكة المرض، فلا بد أن تكون هي نفسها مريضة به، لكنها عاشت بعد وفاة "ريلكة" أكثر من 15 عاما، فكيف يقتل هذا المرض الشاعر الألماني ويبقى على حبيبته المصرية طيلة هذه الفترة؟!".
ومثلما كانت رواية المرض المعدي "هشة" لا تصمد كثيرا، يعتقد عبدالرحمن بدوي أن الزعم بأن شوكة الورد هي التي أدت لوفاة الشاعر "زعم هش" ربما لأن الدافع إلى ترديده جاء لربط مصير الشاعر بالورد الذي طالما تغنى به.
ويتتبع بدوي المصير المأساوي الذي عاشته علوي بعد رحيل الشاعر، فقد عاشت في باريس وحدها تقريبا، وعاشت وهم قدرتها على أن تصبح نجمة سينمائية بفضل جمالها لكنها أخفقت في تلك المحاولة، وعرفها أمير روسي الأصل اسمه نيقولاي متشرسكي فعطف عليها وقبلت به زوجا، لتنسى ألمها العظيم بفراق ريلكة الأبدي، غير أن سوء الحظ - كما يروي «حقي» - كان يلاحقها بغير هوادة، إذ لم يمضِ على زواجها غير أسابيع حتى أعلنت الحرب العالمية الثانية في 29 سبتمبر 1939، واضطر زوجها أن يلتحق بالجيش ويذهب إلى الحرب، وأن تذهب هي إلى نورماندي مع العائلات الفرنسية الهاربة، وماتت قبيل تحرير أوروبا، ولفظت أنفاسها وهي منكبة على صورة «ريلكة» حتى أن أندرية مالرو، شاعر فرنسا الكبير، قال عنها: "يا لها من مسكينة".
وقال عنها الكاتب المصري الشهير أنيس منصور في كتابه "ليلة في بطن الحوت": "هي السيدة التي ماتت بوردة على صدرها". وما يزيد من إخلاص نعمت علوي لذكرى ريلكة أنها ظلت تحمل أوراقه وكتبه في كل رحلاتها، ومع كل ما عاشته من تجارب لم تكتب سيرتها أو مذكراتها أبدا.