عربي ودولي

سر توقيت الحملة الإخوانية القطرية للتحريض على فوضى جديدة فى مصر

على غرار ما فعله محمد البلتاجى فى اعتصام رابعة العدوية قبل أكثر من ست سنوات، عندما وقف معلنا أن ما يحدث فى سيناء من عمليات إرهابية واستهداف للأكمنة والتمركزات الأمنية، سيتوقف فى اللحظة التى تتراجع فيها القوات المسلحة عن مساندة الثائرين فى 30 يونيو، وإعادة محمد مرسى لممارسة سلطاته الرئاسية، مؤكدا مسؤولية الإخوان عما يحدث فى سيناء ودورهم فى إشعاله، تكرر الأمر بصورة أخرى من خلال شخصية مقربة للغاية من النظام التركى، عبر تغريدة لناشطة وصحفية من المنتمين لحزب العدالة والتنمية، أعاد تغريدها ياسين أقطاى المستشار السياسى للرئيس التركى ووثيق الصلة بقادة الإخوان فى اسطنبول، تقول بوضوح: "إن ما يحدث فى مصر الآن سينتهى فى اللحظة التى يجلس فيها السيسى للتفاوض حول غاز شرق المتوسط"! هكذا

تبدو الحملة الراهنة من جانب الإخوان، بدعم الإعلام التركى والقطرى، مفهومة وأكثر وضوحا، عمادها أطماع أنقرة فى اقتسام ثروات الغاز فى شرق المتوسط مع مصر وقبرص، إضافة إلى المخاوف المتنامية من قوة الجيش المصرى وتحسن ترتيبه العالمى وزيادة جاهزيته القتالية، وأخيرا استقلال القرار الوطنى الذى يُؤسس علاقاته الإقليمية والدولية على أرضية المصالح المشتركة، بعيدا عن التورط فى الأزمات والصراعات الإقليمية، أو الانزلاق فى بؤر ساخنة تنشط فيها بعض القوى الإقليمية التى تُهدد استقرار المنطقة وتُريق دماء مواطنيها منذ أكثر من ثمانى سنوات.

سر توقيت الحملة الإخوانية من قطر وتركيا

كانت آخر دعوات الإخوان المباشرة لإعادة حشد الشارع فى خريف العام 2016، عبر دعوة أطلقها هانى صبرى وأبو عمر المصرى من خلال صفحة باسم "ثورة الغلابة"، دعت للتظاهر يوم 11 نوفمبر من العام نفسه، لكن مع فشل تلك الدعوة عادت الجماعة إلى ممارسة حربها الإعلامية، مع بعض العمليات الإرهابية بين وقت وآخر.

بعد ثلاث سنوات من تلك الحملة أعادت الجماعة السيناريو نفسه، بالاستناد إلى ورقة المقاول محمد على ومحاولة ترويج خطابات الحشد من بوابة الموضوعات الاجتماعية بدلا من السياسة وشعارات الجماعة.

لكن فى مقابل دعوة "ثورة الغلابة" التى استمر العمل عليها قبل ثلاث سنوات لأكثر من شهرين، فإن التحرك الأخير جرى إعداده على عجل، وفى غضون أسبوعين فقط، وكأن الأمر يرتبط بغرض عاجل يقتضى تسخين الشارع فى أقصر فترة ممكنة، لتحصيل مكسب سريع، أو إبعاد خطر داهم.

المشهد الحالي وتنامى أنشطة إيران

فى المقابل يتطور مشهد الصراع الإقليمى على الجانب الشرقى، مع تنامى أنشطة إيران وعملياتها العدائية فى المنطقة، وتواتر قرائن على تورطها فى استهداف معامل تابعة لشركة أرامكو السعودية، والدعوة لإطلاق تحالف دولى لتأمين مسارات إمداد النفط فى الخليج. فى الوقت نفسه يواجه الجيش التركى محنة واضحة فى سوريا، مع تآكل مساحات حركته وتنامى نفوذ الجيش السورى المدعوم من روسيا، ودعم الولايات المتحدة لقوات حماية الشعب الكردية، يترافق مع هذا تنامى الضغوط المُغلفة لحركة الحوثيين فى اليمن، واتساع نفوذ الجيش الوطنى فى ليبيا، وإخفاق محاولات حزب الله لإشعال جبهة المواجهة مع إسرائيل لحرف الانتباه عن إيران! تلك الدائرة المتشابكة من النزاعات استهلكت قدرا كبيرا من طاقة تركيا وإيران، فالأولى تنشط فى الملفين السورى والليبى بشكل واسع، والثانية تتوزع قواها بين سوريا واليمن وصراعات الخليج العربى، ومن وراء البلدين تبدو قطر فى مهب إعصار يُعلن عن نفسه بين وقت وآخر، وقد يجرف مراكز القوى القائمة فى الخريطة الخليجية ما لم تندلع بؤرة أخرى أكثر سخونة، تزيد التهاب المنطقة وتصرف الأنظار عما يحدث فى بعض جبهاتها المشتعلة. تلك النقطة ربما تكون المفتاح الذهبى لفهم سر الشحن والهستيريا المتصاعدة من جانب ماكينات الإخوان والإعلام التركى والقطرى، بغرض سكب أكبر قدر من الزيت على الشرارة التى تتولى عناصر الإخوان فى الداخل إشعالها، وهو أمر يستهدف إخراج مصر من المشهد الإقليمى، فضلا عن تخفيف الضغط على مفاتيح لعب تركيا وإيران فى ساحات المواجهة الشرقية

"سوريا واليمن والخليج"، والغربية "ليبيا"، والجنوبية "السودان". تركيا وقطر على جبهة الحرب

صحيح أن دعم قطر وتركيا للإخوان لم يتوقف منذ إطاحة حكم الجماعة فى مصر قبل ست سنوات، لكنه ظل طوال تلك الفترة دعما على أرضية أيديولوجية، بغرض إبقاء الجماعة فى حيز الوجود السياسى، تمهيدا لاستغلال أية فرصة مستقبلية للانقضاض على المشهد. الآن تطور الأمر إلى توظيف مباشر لاختلاق بؤرة توتر إقليمية، قد لا تستهدف إطاحة نظام الحكم فى مصر، أو وضع الإخوان فى سدّة السلطة، وإنما تسعى إلى تعزيز أجواء الالتهاب الإقليمى والقبض على ورقة ضغط أخرى فى مواجهة الموقف الأمريكى المتشدد، وتطورات الوضع فى سوريا، وبشائر التحالف الدولى وموجة العقوبات الأكثر شراسة على إيران. يُعزز هذا التصور أن تلك الحالة من الهيستريا فى تضخيم المشهد لم تحدث من قبل، فعلى مدار ست سنوات من احتضان نظامى الحكم فى تركيا وقطر للإخوان، لم تحدث تلك الموجة الشرسة من النفخ فى النار وتلفيق المشاهد والأخبار. حالة التزييف التى تنامت فى الساعات الماضية، سواء من جانب وكالة الأناضول التى ورطت عددا من الصحف والمواقع فى صور قديمة (اعتذرت القبس الكويتية عن إحداها) أو شبكة الجزيرة التى أعادت بث فيديوهات من الاحتجاجات التالية لثورة يناير والتظاهرات المناهضة للإخوان ومحمد مرسى فى 30 يونيو، وإعادة تحرير بعض المقاطع صوتيا وبصريا لإكسابها طابعا راهنا وهتافات تُلائم الظرف الراهن والسلطة الحالية، وحشد بعض الفئات من الحرفيين والباعة الجائلين بمقابل مالى، حسبما كشف مقطع فيديو وثقته كاميرا مراقبة فى أحد محلات وسط القاهرة، لشباب يتقاضون أموالا قبل الانخراط فى تجمع جرى تصويره وبث مشاهده على قناة الجزيرة. أردوغان - منطقة غاز البحر المتوسط - الجيش المصري - تميم بن حمد أردوغان - منطقة غاز البحر المتوسط - الجيش المصري - تميم بن حمد إلى جانب تلك التدخلات المباشرة بالتكييف وإعادة التحرير واختلاق الصور والمقاطع، شهدت الأسابيع الثلاثة الماضية نشاطا مُكثفا عبر مواقع التواصل الاجتماعى، سواء عبر لجان الإخوان الإلكترونية التى يُديرها هانى صبرى وأبو عمر المصرى من لندن وتركيا، أو آلاف الحسابات الوهمية التى انطلقت فى الأسبوع الثانى من سبتمبر.

أحد الوسوم "الهاشتاجات" التى نشطت المجموعات الإلكترونية فى ترويجها خسر أكثر من 975 ألف تغريدة بعدما علّقت إدارة موقع تويتر ما يتجاوز 10 آلاف حساب وهمى، وبحسب أنشطة التغريد الآلى وتصدير الموضوعات ضمن الأكثر تداولا، فإن تكلفة التغريدة الواحدة بالنسبة لبعض الشركات والأفراد العاملين فى المجال داخل مصر تتجاوز 5 جنيهات، وتقفز إلى ما بين دولارين و3 دولارات فى بعض الدول الأخرى، ما يعنى أن الحملة الإلكترونية المكثفة وحدها استهلكت عدة ملايين من الدولارات، فضلا عن كُلفة مجموعات العمل والتصوير الميدانى، وغرف العمليات وتحرير الأخبار والفيديوهات التى وفرت المواد القديمة مُعادة الإنتاج للجزيرة والأناضول وقنوات الإخوان التى تبث من تركيا ولندن. كل تلك الأمور تخرج عن حدود الدعم المباشر للإخوان فى معركة يخوضها التنظيم مع الدولة المصرية، وتدخل ضمن دائرة الحرب المباشرة التى يلعبها النظامان ولا يتجاوز فيها الإخوان دور الوكالة أو أحد كروت اللعب. وبمنطق الأمور فإن المصالح تتجاوز إعادة التنظيم للمشهد، كما تجاوزته آليات إدارة الصراع. فالقوى المشتبكة فى تلك الحرب لديها طموح أكبر من إعادة دمج الجماعة الإرهابية فى المشهد السياسى، إذ تستهدف على ما يبدو إعادة تحرير المشهد الإقليمى انطلاقا من مصر، والزج بالدولة فى أزمة داخلية تصرف انتباهها عن الصراعات المحيطة، وربما عن بعض الشؤون المحلية، مثل قضية "غاز المتوسط" التى أشارت إليها الصحفية المقربة من أردوغان ومستشاره السياسى.

مفاتيح مصرية تُعزز وطأة الحرب

فى الوقت الذى يدخل فيه المشهد الإقليمى إلى حيز التعقيد والتصاعد الحاد والمتسارع، كانت الساحة الداخلية المصرية تبدو أكثر هدوءا من مثيلاتها فى تركيا وإيران، وفى بؤر السخونة باليمن وسوريا وليبيا. هذه الصيغة فضلا عن دورها فى تركز الضغط الأمريكى والعالمى على جبهات المواجهة فى الشمال السورى والخليج العربى، فإنها تضمن نموا مضطردا للقوة العسكرية والدبلوماسية المصرية، فى مقابل تآكل قدرات الحلف التركى القطرى الإيرانى، ما يعنى احتمال انقلاب معادلة الصراع الإقليمى خلال السنوات وربما الشهور المقبلة، ما يستدعى التدخل العاجل لوضع العصا فى العجلة، ودفع تفاعلات المشهد الإقليمى خطوات إلى الخلف، أو على الأقل تجميده فى صورته الحالية بما فيها من توازنات وعناصر ضغط. الجيش-المصري الجيش المصري

من تلك النقطة يُمكن النظر إلى تعامل الإدارة المصرية مع المشهد الإقليمى سياسيا ودبلوماسيا، فى ظل ابتعاد واضح عن التورط فى الصراع المحتدم على الأراضى اليمنية، أو مساندة معنوية للجيش الوطنى الليبى لم تنزلق إلى حدود العمل العسكرى المباشر كما حدث مع تركيا ودعمها لحكومة الوفاق، أو اشتباك سياسى مع تفاعلات المشهد السورى بدون وجود مباشر على الأرض التى تستبيحها كل القوى الإقليمية، سواء أنظمة وحكومات أو جماعات وميليشيات. تلك الصورة من استقلال القرار الوطنى، وتأسيس العلاقات الإقليمية والتعامل مع قضايا المنطقة على أرضية المصالح المتبادلة، والتفاهمات المتوازنة بعيدا عن التورط فى المواجهات المحتدمة، لا تُرضى القوى الإقليمية الغارقة فى تلك الملفات حتى أنوفها، لذا فإن البديل أن تنزلق مصر إلى تلك الساحات، لكن تلك الخطة لم تُحقق المراد منها على مدى السنوات الماضية (منذ اندلاع صراع الحوثيين باليمن 2015، وتطور المشهد الليبى 2016، وتفاعلات سوريا الحادة 2017، وبزوغ أزمة إيران فى الخليج 2019) لذا فإن البديل العاجل والأكثر إلحاحا يتمثل فى نقل تلك الحالة، وانعكاسات الصراعات الإقليمية إلى داخل المصرى، بما يُحقق الآثار نفسها التى يُمكن أن تتكبدها مصر حال كانت طرفا مباشرا فى تلك الخصومات والاشتباكات.

تطور قدرات القوات المسلحة

يُمكن النظر إلى تطور قدرات القوات المسلحة المصرية، وتحسن ترتيب الجيش فى السنوات الأخيرة ليقفز عددا كبيرا من المراكز وصولا إلى الموقع 10 بين أقوى جيوش العالم، مع إبرام عدد من صفقات التسليح المهمة مع الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ومُعاينة آثار تلك التطورات وقتما حاولت البحرية التركية التحرش بحقول الغاز فى شرق المتوسط فتصدت لها وحدات البحرية المصرية وأبعدتها عن المنطقة بدون اشتباك مباشر. وفى ظل تطلعات تركيا للخروج من أزماتها الاقتصادية، والهروب من فقر الموارد الطبيعية، خاصة فى قطاع الطاقة، عبر الاستحواذ على نسبة من ثروات الغاز الطبيعى فى حوض المتوسط، والمواجهة الشرسة من الاتحاد الأوروبى لمحاولات أردوغان التحرش بقبرص أو التنقيب فى مياهها الإقليمية، فمن غير المُحتمل أن تتحقق تلك الغاية العظيمة بالنسبة له ما دام الجيش المصرى منتبها وقادرا على التعامل مع تلك التحركات. هنا تتعاظم أهمية اختلاق سياق ساخن فى الساحة المصرية، وتوجيه شرر السخونة إلى الجيش بشكل مباشر، سعيا إلى إعادة تكييف مشهد 25 يناير بصورة مغايرة، تُوضع فيها القوات المسلحة فى مرمى الاستهداف، لتتحول الساحة الداخلية إلى جبهة بديلة عن جبهات المتوسط والحدود الشرقية والغربية والجنوبية. القوى المعادية لها موقف مغاير 555555555555555555555 بالتأكيد تسعى جماعة الإخوان إلى اختراق المشهد السياسى المصرى، لكن وراء تلك الغاية تقف القوى الداعمة للجماعة موقفا آخر. تصريح الصحفية المقربة من أردوغان لا يعنى أن الإخوان سيتراجعون حينما يتلقون أوامر من نظام أنقرة، قدر ما يُشير إلى امتلاك النظام مفاتيح تعويق الحملة، سواء كان ذلك من خلال قدرات المخابرات التركية على إنهاء مشهد المقاول، أو وقف التدفقات المالية والدعم الإعلامى لحملة التنظيم. فى المقابل تُعوّل إيران على تلك السخونة المُصطنعة فى المناورة والإفلات من الضغوط الدولية، وتخفيف الحصار عن الحوثيين وحزب الله وتمركزات الحرس الثورى فى سوريا. وفى الوقت الذى تُروّج فيه بعض القوى السياسية المصرية لأن التحركات الأخيرة يُغذيها انفعال شعبى عفوى، وقد يكونون مُحقين فى جانب من الصورة، فإن الجانب الأكبر يبدو قيد التأميم بالكامل لصالح المثلث الإخوانى التركى القطرى، الذى يستهدف ضلعه الأول تذويب الرفض الشعبى للتنظيم، ويستهدف الضلع الثانى وضع موطئ قدم فى شرق المتوسط وتقليص النفوذ المتنامى للجيش الليبى ودفع وحدات حماية الشعب الكردية فى سوريا خطوات للخلف، بينما يستهدف الضلع الثالث إبقاء سخونة الخليج فى الحيز الآمن بدون تطورات حادة، والحفاظ على الظهير الإيرانى فى دائرة الأمان بما يضمن له الإفلات من الحصار الدولى المتنامى. باختصار، فإن تلك التركيبة وتطلعات أضلاعها المختلفة هى السر وراء توقيت الحملة الإخوانية الراهنة، التى ستتواصل حتى تحقق هدفها أو تتعقد خيوط الصراعات الإقليمية بشكل أكثر حدة، بما يُورّط تركيا وإيران فى أمور أكثر ضراوة، أو أن يعى المصريون كواليس المشهد فيُقررون إفساده، والاحتمال الأخير هو الأقوى والأقرب للتحقق.