"سيدي أمحمد".. أقدم محكمة جزائرية تحاسب نظام بوتفليقة

تتوجه أنظار كافة الجزائريين إلى محكمة "سيدي أمحمد" بالعاصمة، التي باتت مسرحاً لمحاكمة تاريخية وغير مسبوقة لأركان نظام الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة.

مشهد غير مسبوق عند الجزائريين، وبعض ممن كانوا بالأمس القريب "متحدثين باسمه ومحددين مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي"، يلتقون في المكان المخصص لـ"المتهمين" –كما يقول الجزائريون- وتحت سقف محكمة "سيدي أمحمد" التي أصبحت أشهر محكمة بالجزائر في 2019. وتشهد المحكمة أول محاكمة علنية لبعض رموز نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي استقال في 2 أبريل/نيسان الماضي على وقع أضخم مظاهرات شعبية طالبت برحيله مع نظامه. ومن أبرز المتهمين في قضايا فساد مرتبطة بمصانع تركيب السيارات الأجنبية التي تعالجها المحكمة ذاتها، رئيسا الوزراء الجزائريان السابقان أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال ونجله فارس، ووزيرا الصناعة والمناجم السابقان بدة محجوب ويوسف يوسفي، بالإضافة إلى رجال الأعمال محمد بايري وأحمد معزوز وحسان عرباوي، و17 موظفاً سابقاً بوزارة الصناعة والمناجم، يمثلهم 20 محامياً. إضافة إلى محاكمة غيابية لوزير الصناعة الجزائري الأسبق عبدالسلام بوشوارب الذي تمكن من الفرار خارج البلاد في مارس/آذار الماضي، وتضاربت الأنباء بشأن مكانه بين البرازيل أو فرنسا. رئيسا الوزراء السابقين أويحيى وسلال مع وزير الصناعة الأسبق بوشوارب الهارب إلى البرازيل "وسطع نجم" محكمة "سيدي أمحمد" بالجزائر العاصمة –وفق تعبير الجزائريين– منذ نهاية مارس/آذار الماضي، بعد أن مثل بها رجل الأعمال المثير للجدل، علي حداد المقرب من عائلة بوتفليقة بتهم فساد، بعد محاولته الفرار إلى تونس. ومنذ ذلك الوقت، لم يعد الدخول إلى المحكمة مثل الخروج منها، "كيف لا، وهي التي أصدرت تأشيرات الدخول إلى سجن الحراش" كما علق أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي. ومنذ بدء ما يعرف في الجزائر بـ"الحرب على الفساد" شهر مارس/آذار الماضي، تعاقب على التحقيق في تهم فساد بمحكمة "سيدي أمحمد" أكثر من 150 مسؤولاً بين رؤساء حكومات ووزراء سابقين ورجال أعمال ومسؤولين أمنيين وولاة (محافظين) وموظفين في بعض الوزارات والبنوك والشركات الحكومية. وعلى الرغم من وجود عدة محاكم أخرى في العاصمة الجزائرية، فإن محكمة "سيدي أمحمد" استحوذت على "أثقل قضايا الفساد ومع أكثر النافذين في عهد بوتفليقة"، الأمر الذي دفع بمتابعين إلى التساؤل عن سر اختيارها، وأي دلالة سياسية أو تاريخية أو قانونية لاختيار تلك المحكمة.

محكمة سيدي أمحمد أقدم محكمة بالجزائر

بالعودة إلى تاريخ محكمة "سيدي أمحمد" يتضح بأنها "أقدم" محكمة أنشئت في الجزائر، كان ذلك في عهد الاستعمار الفرنسي الذي أمر بإنشائها في 9 سبتمبر/أيلول 1830 أي بعد شهرين من احتلاله الجزائر. وتأخر الشروع في تشييد المحكمة لأسباب مجهولة 15 سنة كاملة، حيث أوكل للمهندس الفرنسي "بول جيون" تصميم مبنى المحكمة، ليستغرق إنجازها 10 سنوات أخرى، ويتم الإعلان عن تأسيسها في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1885. وتشاء الأقدار أن تشهد المحكمة ذاتها أشهر وأكبر محاكمة في تاريخ الجزائر والتي وصفت بـ"محاكمة القرن" في الذكرى الـ134 لتأسيسها، لأبرز أركان نظام الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة، والمتهمين بعضهم أيضا بـ"تقديم امتيازات غير محدودة لفرنسا" خلال توليهم مناصب عليا في الدولة الجزائرية. تسمى أيضا محكمة "عبان رمضان" الذي يعد من أبرز قادة ومهندسي الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي (1954 – 1962)، أما التسمية الثانية "سيدي أمحمد" فتعود إلى المنطقة (وتسمى دائرة) التي توجد بها محكمة "سيدي أمحمد" التابعة لبلدية الجزائر الوسطى بالعاصمة. وتوجد محكمة "سيدي أمحمد" على مقربة من ميناء الجزائر، وغير بعيدة عن غرفتي البرلمان الجزائري (مجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني) والسوق السوداء للعملة الصعبة بشارع "بور سعيد" المعروف باسم "السكوار".

صورة قديمة لمحكمة سيدي أمحمد اختصاص إقليمي

واستبعد الحقوقي الجزائري البارز فاروق قسنطيني في حديث مع "العين الإخبارية" أي دلالة سياسية أو تاريخية لاختيار محكمة "سيدي أمحمد" لتكون مختصة في قضايا فساد ثقيلة مرتبطة بنظام الرئيس الجزائري المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة. وأوضح أن الأمر مرتبط فقط بمسائل قانونية أو ما يعرف في الجزائر بـ"الاختصاص الإقليمي للمحكمة" التي تضم 52 قاضياً، مشيراً إلى أن "مكاتب ونشاطات المتهمين تقع في النطاق الإقليمي لمحكمة سيدي أمحمد، والتي تختص أيضا بالقضايا الاقتصادية".

شاشة داخل المحكمة لمحاكمة رموز نظام بوتفليقة إشكال قانوني

وطرح قانونيون جزائريون إشكالية متعلقة بمحاكمة رئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال في محكمة ابتدائية، في وقت ينص الدستور الجزائري على إنشاء محكمة خاصة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية أو الوزير الأول؛ إذ تنص المادة 177 من الدستور الجزائري على أن "تؤسس محكمة عليا للدولة، تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، والوزير الأول عن الجنايات والجنح، التي يرتكبانها بمناسبة تأديتهما مهامهما‮، ويحدد قانون عضوي تشكيلة المحكمة العليا للدولة وتنظيمها وسيرها وكذلك الإجراءات المطبّقة‮". وفي تصريح لـ"العين الإخبارية" أجاب الدكتور عامر رخيلة العضو السابق في المجلس الدستوري على الإشكال الذي طرحه القانونيين. وأشار إلى أن "الإشكال المطروح في الجزائر هو أن تلك المحكمة الخاصة تحتاج إلى قانون عضوي، وكان هناك تقاعس واضح سواء من وزارة العدل أو من رئاسة الجمهورية أو من البرلمان في عهد بوتفليقة لتقديم مشروع قانون لإنشاء هذه المحكمة العليا الخاصة، ولهذا فإنه منصوص عليها قانوناً لكنها غير موجودة". وأوضح: "ولهذا فإن وزارة العدل رأت بما أن تلك المحكمة الخاصة غير موجودة، وهناك قطب جزائي له اختصاص للنظر في مثل هذه القضايا". كما أوضح الخبير في القانون الدستوري أسباب اختصاص محكمة "سيدي أمحمد" بملفات كبار رموز نظام بوتفليقة، بأن "المشرع أقر منذ سنوات الأقطاب (الأقسام) الجزائية، من بينه قطب الجزائر العاصمة ومقره محكمة سيدي أمحمد، ولذلك فإن القضايا ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي أو ما يسمى بالجريمة السياسية والاقتصادية فقد حددها المشرع في هذه المحكمة، ولها تشكيلة خاصة".

قضايا ثقيلة

وبالنظر إلى الأسماء البارزة والنافذة في عهد بوتفليقة التي مرت على تحقيقات محكمة "سيدي أمحمد" خاصة رؤساء الحكومات والوزراء السابقين ورجال الأعمال، فقد فتحت هيئة المحكمة ملفات أكثر وأكبر قضايا الفساد التي سميت بـ"قضايا القرن". ومن أبرزها قضية حجز 701 كيلوجرام من الكوكايين صيف 2018، حيث أدانت المحكمة المتهم الرئيسي رجل الأعمال كمال شيخي المعروف باسم "كمال البوشي" (لحام) شهر يوليو الماضي بـ10 سنوات سجناً. كما فتحت المحكمة منذ أبريل/نيسان الماضي قضية الطريق السيار "شرق – غرب" التي اصطلح على تسميتها بـ"فضيحة القرن"، والمتهم فيها علي حداد رجل الأعمال المقرب من عائلة بوتفليقة ووزير الأشغال العمومية الأسبق عمار غول. بالإضافة إلى قضايا أخرى مرتبطة بحصول رجال أعمال على قروض "خيالية" من بنوك حكومية "على نحو يخرق القوانين والتنظيمات" كما ذكرت بيانات سابقة للمحكمة ذاتها، وتهريب رؤوس أموال إلى الخارج ومنح قروض خيالية من قبل الشخصيات القابعة في سجن الحراش. أما القضية الأبرز التي فتحت ملفها محكمة "سيدي أمحمد" في محاكمة علنية للمرة الأولى هي قضية مصانع تركيب السيارات أو كما يسميها الجزائريون "مصانع نفخ العجلات"، والتي تضم أسماء كثيرة وكبيرة من سياسيين ورجال أعمال متورطة في "منح امتيازات غير مشروعة ودون وجه حق، وتبديد أموال عمومية، وإساءة استغلال الوظيفة عمداً بغرض منح منافع غير مستحقة للغير على نحو يخرق القوانين والتنظيمات، وتهريب رؤوس أموال إلى الخارج ومنح قروض خيالية". ومنذ مارس/آذار الماضي، أصدرت المحكمة أوامر قضائية بوضع أكثر من 30 شخصية نافذة في عهد بوتفليقة في السجن المؤقت بتهم فساد وتبديد وسرقة المال العام والتمويل الخفي لحملة بوتفليقة الانتخابية ومنح والحصول على امتيازات غير مشروعة والثراء غير المشروع، وتضخيم فواتير الاستيراد، واستغلال النفوذ والمنصب. ومن بين هؤلاء رئيسا وزراء سابقان في سابقة هي الأولى من نوعها في الجزائر و12 وزيراً سابقاً، و13 رجل أعمال، ومئات الموظفين في بعض الوزارات والبنوك والشركات الحكومية.

رجال أعمال جزائريون في السجن بتهم فساد قضايا جدلية

في مقابل ذلك، كانت محكمة سيدي أمحمد مسرحاً لاحتجاجات شعبية على محاكمات جرت وقائعها داخل أروقتها ضد معتقلين من الحراك الشعبي بتهم مختلفة، أبرزها "المساس بالوحدة الوطنية" و"رفع راية غير الراية الوطنية" في إشارة إلى الراية الأمازيغية، و"عرقلة المسار الانتخابي" من قبل رافضين للانتخابات، اعترضوا مرشحيها الخمسة خلال حملاتهم الانتخابية. وشهدت المحكمة وقفة احتجاجية لنشطاء حقوقيين وسياسيين يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد إصدارها أحكاماً نهائية بالسجن بين ستة أشهر وسنة واحدة غير نافذة في حق 21 موقوفاً من الحراك.