المشكلة في مفهوم “أبرتهايد” ليست أنه يمنع قراءة هذا التقرير المهم والمفصل، بل لأنه يغلق النقاش حول النظام في دولة إسرائيل المليء بالتمييزات. إذا أردنا معرفة ما يحدث هنا، نحتاج إلى تمييز دقيق، وليس إلى وضع شيء واحد عنوانه التمييز ضد الفلسطينيين. لأن النجاح في سيطرة "إسرائيل" على الفلسطينيين يقوم على عمليات الفصل المادية وعدد من أنظمة الفصل والقمع. صحيح أن الخط الأخضر غير موجود من ناحية اليهود، لكن ذلك ليس من ناحية الفلسطينيين. الفلسطينيون في الضفة الغربية كانوا يريدون الاستفادة من حقوق المواطن والحقوق السياسية مثل الذين يسمون “عرب إسرائيل”، رغم نظام الفصل والتمييز الهيكلي في الدولة اليهودية. ليس هناك فلسطيني من مواطني "إسرائيل" على استعداد لنقل قريته إلى الضفة، التي تقع تحت نظام عسكري يشبه ما كان عندما كانوا يعيشون هنا في 1948 وحتى 1967.
هاكم سر نجاح نظام التمييز في إسرائيل: أبرتهايد متطور، إذا شئتم، لكنه ليس نظاماً موحداً. لا أعارض استخدام مفهوم أبرتهايد لإظهار قوة القمع وعدم القانونية الدولية للنظام في "إسرائيل"، بل أعتقد أنه يخطئ في تحقيق الهدف السياسي الرئيسي، وهو فهم الواقع الذي هو الشرط الأول لإصلاحه. النظام في إسرائيل ينجح في فصل الفلسطينيين والسيطرة عليهم بشكل ناجع جداً أكثر من نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا في حينه. إذا كان الفصل العنصري هناك قد خلق وحدة للسود ومطالبة سياسية بالمساواة، “صوت واحد لكل شخص”، فإن نظام التفوق اليهودي والتمييز المتدرج يقسم الفلسطينيين إلى درجة أنه لا يمكنهم تشكيل مؤتمر وطني يجمع الفلسطينيين الموجودين داخل إسرائيل وشرقي القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان. ما الذي كانوا سيفعلونه بأيمن عودة أو منصور عباس إذا شارك أي منهما في مؤتمر وطني كهذا؟
لكن من ينكرون مظاهر الأبرتهايد المتطور يقولون إنه لا وجود لعنصري هنا، بل “نزاع قومي”. إذا كان النزاع قومياً فلماذا لا يمكن للفلسطينيين تحت أنظمة سيطرة مختلفة عن بعضها أن يشكلوا مؤتمراً وطنياً. صحيح أن الأمر لا يتعلق بتمييز على أساس عرقي، لكن الحديث لا يدور أيضاً عن مجرد نزاع قومي. على أي حال، الحديث يدور عن صراع بين مستوطنين وسكان أصليين، وهدف المستوطنين هو محو الوجود المادي والهوية الجماعية للسكان الأصليين بهدف السيطرة على الأرض. “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، هكذا قالوا، وهو شعار عبر عن الطبيعة التي حاولت فيها الصهيونية القيام بعمليتين في الوقت نفسه: تشكيل اليهود على اعتبار أنهم شعب – قومية، وتجريد السكان الأصليين من هويتهم المشتركة.
خلافاً لجنوب إفريقيا، التي أرادوا فيها الحفاظ على السود من أجل استخدامهم عمالاً رخيصين ومحرومين من الحقوق، فإن المشروع الصهيوني استيطاني وكولونيالي، مثل استيطان الإنجليز في أمريكا الشمالية وأستراليا. حتى العام 1967 لم يرغبوا في قوة عمل السكان الأصليين، بل أراضيهم. ولكن تمكنت الهوية الوطنية الفلسطينية حتى العام 1948 من التبلور عقب معارضتهم لجهود طردهم إلى الخارج. منذ الطرد والهرب أثناء الحرب، ينشغل النظام الإسرائيلي بالفصل الجسدي بين اليهود والعرب و”فرق تسد” بين العرب لتعزيز السيطرة والحفاظ على نظام فيه حقوق زائدة لليهود.
صحيح أنه وضع المواطنين العرب في إسرائيل، رغم الفصل والقمع والتمييز، أفضل من وضع السود في نظام الأبرتهايد، ولكن وضع الفلسطينيين في الضفة وغزة أسوأ مما كان في الأبرتهايد. واقع الفلسطينيين في القطاع هو واقع سجن كبير، والحق الذي تأخذه إسرائيل لنفسها والقصف من الجو وقتل المدنيين، لم يتبعه البيض في جنوب إفريقيا لقمع السود الذين يعارضون الأبرتهايد. في الأبرتهايد المتطور فصل بين أنواع الفلسطينيين: إحدى المجموعات في وضع أفضل نسبياً، والمجموعات الأخرى تعيش تحت أنظمة قمع في كل أنواع الدرجات، أسوأ مما استخدم ضد السود في نظام الأبرتهايد.
هذه هي المشكلة في استخدام مفهوم أبرتهايد. فهو يطمس الفروق ويبهت نجاح إسرائيل في أن تفرق وتسود أكثر. هذه الإدانة هي الإدانة المتاحة الأشد، لكنها لا تمكن من فهم سبب نجاح هذا القمع بشكل كبير. حسب تحليلي، فإن النظام الحالي أسوأ من الأبرتهايد، لأنه لا يمكن الفلسطينيين من النضال معاً من أجل هدف مشترك. خمس مجموعات منفصلة من الفلسطينيين تخضع لأنظمة تمييز مختلفة عن بعضها، ولها أهداف سياسية مختلفة. فالطلب داخل حدود 1967 هو المساواة، وفي الضفة الغربية هو دولة مستقلة، وفي قطاع غزة رفع الحصار. اللاجئون يطلبون حق العودة. والفلسطينيون في شرقي القدس مشوشون، لديهم حرية حركة وحقوق اجتماعية مثل مواطني إسرائيل الآخرين، لكنهم محرومون من الجنسية مثل الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومثلهم يتعرضون لتهديد الطرد من بيوتهم وهجمات المستوطنين والقتل التعسفي. هم لا يتجرأون على التصويت للبلدية، وفي المقابل يتجرأون على مهاجمة الجنود وتعريض حياتهم لخطر الموت في طرفة عين دون أي دفاع أو محاكمة.
إذا كان الأمر كذلك، فما هو المشترك بينهم؟ ماذا يمكن أن نسمي هذا النظام الذي نجح في فعل ما لم ينجح البيض في جنوب إفريقيا في فعله؟ المشترك هو أن لليهود حقوقاً أكثر مما هي للسكان الأصليين، في كل مكان بين النهر والبحر وخارج حدود البلاد. أما النظام فنظام تفوق يهودي. ولكن الفجوة ليست واحدة. فالحقوق الزائدة لليهود في الضفة هي أكثر من حقوق اليهود داخل إسرائيل؛ ولليهود في غزة، بواسطة الجيش، سيطرة كاملة على ما ومن يدخل وما ومن يخرج. ويبرز نظام التفوق أكثر خارج حدود إسرائيل: يحظر على أحفاد الفلسطينيين الذين عاشوا هنا مئات السنين العودة إلى البلاد أو الحصول على تعويضات عن أملاكهم، في حين أن لكل يهودي غير ذي علاقة فعلية مع البلاد، باستثناء الصلاة والأعياد في أفضل الحالات، يملك الحق الكامل في الحصول فوراً على الجنسية الإسرائيلية والدعم الاقتصادي من الحكومة.
هذا هو إذا النظام الفريد الذي قام في البلاد عقب تطور تاريخي خاص يختلف عما كان في أماكن أخرى، ويختلف أيضاً عن حلم المؤسسين في إقامة مجتمع يهودي أخلاقي يكون نموذجاً للأغيار. هذا النظام ظلامي ويخلق التمييز والكراهية حتى بين اليهود، نظام لا حدود له ولا قدرة له على وقف الدافع القومي المتطرف – العنصري عن مواصلة طرد الشعب الأصلي إلى الخارج. مفهوم الأبرتهايد يدفعنا إلى إجراء نقاش دلالي لا فائدة منه، ويحرف الانتباه عن نظام التفوق اليهودي، الذي يستحق كل إدانة، وهو بحاجة إلى تغيير راديكالي. حل الأبرتهايد الذي كان في جنوب إفريقيا كان بسيطاً، وهو المساواة في الحقوق لجميع المواطنين. ولكن لا ينفع حل مثله هنا لأنه بعيد عن أن يتعامل مع تعقيدات نظام التفوق اليهودي.