غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا وديناميكية الأزمة الآخذة في التشكل، حولت الصين بصورة غير متوقعة إلى الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تفرض على بوتين تغيير الاتجاه. مع ذلك، الأزمة والحرب تضع أمام الصين معضلات صعبة حول سلوكها وفهمها للعلاقات الدولية. فشل روسيا العسكري، خصوصاً في هذه المرحلة، والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة في حجمها وقوتها التي فرضتها الولايات المتحدة وعشرات الدول الأخرى وتهدد الاقتصاد الروسي، وعزل شبه مطلق لروسيا التي أصبحت منبوذة، كل ذلك سيصعب على الصين مواصلة دعمها لبوتين.
يبدو أن الصين يمكنها كسر نظام العقوبات وتجاهل معانيه، وفي الوقت نفسه تدعم روسيا. لكنها لن تفعل؛ لأن تأييد روسيا سيحول الصين إلى شريكة بالقوة لبوتين، وسيضر بمكانتها الدولية بشكل عام وسيخلق خوفاً جوهرياً من نواياها في الشرق الأقصى بشكل خاص. عملياً، لا يمكنها أيضاً فعل ذلك. العقوبات دولارية فرضتها دول، ومنها بنوك وشركات ومؤسسات، التي يعتمد عليها اقتصاد الصين. الصين هي الدولة الوحيدة في العالم، نظرياً، التي يمكنها أن تشتري احتياطي الذهب من روسيا البالغ 132 مليار دولار. ولن تفعل ذلك. فالذهب الروسي قد يكون خاضعاً لعقوبات ثانوية، تتعلق بالشركات التي تتاجر بالذهب الروسي. هذه عقوبات يسنها الكونغرس الأمريكي في هذه الأثناء.
الرئيس الصيني شي جينغ بينغ لديه القدرة ورافعة التأثير والضغط السياسي والاقتصادي الأقوى على بوتين، وربما الوحيدة. من هنا تأتي قدرته، النظرية في هذه المرحلة، على تغيير ديناميكية الحرب ووقف بوتين. ولفعل ذلك، عليه إرسال رسالة حاسمة لبوتين مصاغة كالتالي: “كفى، أوقف الآن، عليك إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة والناتو على الفور، وإلا فلن تصغي لك الصين لفترة طويلة”. من هذه الناحية، يمكن الادعاء بأن لدى الرئيس الصيني مفتاح لبقاء بوتين. كل ذلك تعرفه واشنطن، لكن أمريكا والصين لا تنسقان معاً، لذلك يجب أن تأتي المبادرة من بكين نفسها، وأن تنبع من اعتراف الصين بقدرتها السياسية، ومن إدراك ميزان الربح والخسارة لكل خيار.
فعلياً، الصين في نقطة يمكنها فيها، للمرة الأولى منذ أن أصبحت دولة عظمى، أن تشع قوتها وتشكل قوة إيجابية في النظام العالمي. هنا تكمن المعضلة. ولفعل ذلك، على الصين أن تعمل بتناقض معين مع استراتيجيتها، واستخدام روسيا كأداة لتغيير النظام العالمي بالتدريج. من جهة أخرى، هذه هي المعضلة الثانية، استمرار دعمها الهادئ لروسيا أو تمتمة عديمة المعنى من “يجب إظهار ضبط النفس”، سيحدد مكانتها ومكانة الرئيس الصيني كزعيم دولة عظمى اقتصادياً غير قادرة على التسامي لتصل إلى عظم اللحظة، وتزرع الخوف في الشرق الأقصى من نواياها المستقبلية.
في 4 شباط عقد في بكين حفل افتتاح الأولمبياد الشتوي. حسب المخابرات الأمريكية، طلبت الصين من روسيا بأن لا تشن الحرب قبل انتهائه. في اليوم نفسه، تم التوقيع على اتفاق تعاون شامل بين روسيا والصين. على وجبة العشاء، بمناسبة هذه الأحداث وبوجود بوتين بوجه مبتسم إلى جانبه، أعلن الرئيس الصيني أن “الصداقة بين الصين وروسيا لا حدود لها”. وأضاف بأنه يؤيد طلب روسيا منع أوكرانيا من الانضمام للناتو.
الرئيس الصيني عرف جيداً أن انضمام أوكرانيا للناتو غير موجود على الأجندة. وعملياً، لن تكون هناك احتمالية فعلية، منذ طلب من أوكرانيا تقديم طلب أول للانضمام في 2008. هو أيضاً شخص ذو وجود مكافئ جيوسياسي في المحيط الهادئ. إذا نجحت روسيا من خلال الضغط والتهديد على أوكرانيا وبدافع الرغبة الغربية في منع الأزمة والحرب، في انتزاع بيان من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً للناتو، والاعتراف باحتلال شبه جزيرة القرم، فإن الصين ستصوغ طلباً مشابهاً بالنسبة للتحالفات الأمريكية في شرق آسيا وحضور عسكري في اليابان وفي كوريا الجنوبية بواسطة الضغط والتهديد على تايوان.
إذا تغيرت “الهندسة المعمارية الأمنية” لأوروبا نتيجة الضغط الروسي، فبالإمكان تغيير النموذج في شرق آسيا. لا يوجد هناك حلف قوي ومستقر مثل الناتو، والصين قوية بكل الأبعاد أكثر مما هي روسيا قوية في أوروبا.
من المرجح أن استعراض الصداقة والتصريحات المؤيدة لروسيا من قبل الصين قوّت بوتين في اتخاذ قراره. بالنسبة له، لا يتعلق الأمر بسياسة محلية، بل بحلف بين الصين وروسيا يريد تحدي هيمنة أمريكا وتغيير مبنى النظام العالمي. وهي حدود لم تظهر إلا بعد مرور عشرين يوماً على ذلك، عندما قامت روسيا بغزو أوكرانيا. وبعد 35 يوماً، وبعد مرور أسبوعين على الحرب غير الناجحة للجيش الروسي، اتضحت هذه الحدود، بل ويمكن أيضاً التشكيك بإمكانية أن الرئيس الصيني كان سيكرر ذلك التصريح، لولا التصميم ووحدة مواقف الولايات المتحدة والناتو، وبعد رؤية اليابان وتايوان وسنغافورة شركاء كاملين في العقوبات.
تعزيز العلاقات مع روسيا كان بالنسبة للصين استراتيجية سياسية صحيحة وحيوية. ولا صداقة وتعاون ثقافي أو غرام أو تعاطف هنا، بل مصالح سياسية واقتصادية. المعارضة بصوت مرتفع، والمشاعر المعادية للصين واعتبارها “خصماً يمكن أن يتحول إلى عدو” وسياسة الولايات المتحدة ضد الصين تعتبرها بكين غطرسة وسيادة أمريكية مصممة على منع، على الأقل تقييد، الصين من أن تكون قوة عظمى سياسياً وعسكرياً، كتعبير وانعكاس شرعي لقوتها الاقتصادية الكبيرة. “الانتقال إلى آسيا” في السياسة الخارجية الأمريكية اعتبرته بكين مواجهة مباشرة مع الصين. لذلك، الصين وروسيا ضحيتا الهيمنة الأمريكية، التي تغرب، حسب الصين. ولكن حسب المعايير المقبولة لاعتبار دولة عظمى مهيمنة، فهي ما زالت بعيدة عن فقدان التفوق العالمي.
إذا كان الرئيس الصيني يعرف نية روسيا بغزو أوكرانيا ولم يخبر أحداً بذلك، فهو شريك في هذه الخطوة. وإذا لم يكن يعرف، لأن بوتين فضل عدم إبلاغه، فهذه إهانة سياسية للصين وإهانة شخصية للرئيس الصيني.
إن تأييد الرئيس الصيني لبوتين أدى إلى تضييق مساحة مناورة الصين ونطاق البدائل السياسية المتاحة لها كلما تطورت الأزمة، من التهديد بضم مقاطعة دونيتسك ولوغانسك إلى غزو كامل. هنا يطرح سؤال: هل كان الرئيس الصيني يعرف نوايا بوتين الدقيقة أم كان لا يعرف إلا السياسة العامة. بول هنلي، الخبير في شؤون الصين ومدير سابق لقسم الصين في مجلس الأمن القومي الأمريكي، لخص السؤال بالآتي: إذا كان الرئيس الصيني يعرف نية روسيا بغزو أوكرانيا ولم يخبر أحداً بذلك، فهو شريك في هذه الخطوة. وإذا لم يكن يعرف، لأن بوتين فضل عدم إبلاغه، فهذه إهانة سياسية للصين وإهانة شخصية للرئيس الصيني. يصعب الافتراض، ومن غير المعقول، أن هذا مس كبير بقوة الرئيس الصيني السياسية، الذي قد يُعين هذه السنة لولاية ثالثة على التوالي وبصورة غير مسبوقة، مدتها خمس سنوات في منصبه. ولكن هذا يعتبر مساً بمكانته.
في الساحة الدولية، لا يتم تقييم الرئيس الصيني استناداً إلى تصريح 4 شباط، بل إلى السياسة التي ستتبعها الصين في الأسابيع القريبة المقبلة. بناء على ذلك، تجد الصين نفسها في مفترق طرق حاسم بالنسبة لمكانتها واستمرار علاقتها مع الولايات المتحدة. إذ يمكنها أن تشكل الوسيط من خلال إدارة مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة. وهذه مهمة غير سهلة؛ لأن الصين ستحصل، مقابل وقف بوتين، على فرض أن هذا ممكن، على مكانة وقد تطلب من أمريكا أموراً ستجد واشنطن صعوبة في الموافقة عليها. على أي حال، الصين تجد نفسها في مكان لم تتوقع أن تكون فيه، وفي مكان لم تتوقع فيه الولايات المتحدة أن تراها فيه.