تلك الدهشة التي تجلّت على وجوه الجمهور النوعي ومتابعته في سكون لما يحدث على ركح اهتزّ تحت ثقل التاريخ تاريخ الركح الذي كان فضاء ملائما لمثل هذه الأعمال وتاريخ العمل الذي يحاكي الأجواء العربية السائدة من خلال سرد تاريخي لوقائع عاشتها الأمة العربية في الأندلس وظلت متأثرة بها إلى يومنا هذا. "ملوك الطوائف" ملحمة تاريخية غنائية تبدأ بوقوع المعتمد ابن عباد ملك اشبيلية (قام بالدور غسان صليبا) في هوى "الغسالة" اعتماد الرميكية (هبة طوجي) أثناء رحلة صيد، صبية تغالب القدر تأتي إليه من مدن الغرابة ليحوّلها إلى ملكة يستشيرها ويستأنس برأيها، هو واحد من اثنين وعشرين ملكا يسوسون دويلات: غرناطة، قرطبة، طليطلة، بلنسية...
كل حاكم منشغل عن قضايا شعبه بالكيد وحياكة الدسائس لباقي الملوك في السرّ أما في العلن فالنفاق سيد العلاقات، كلهم يتسابقون لكسب ود ملك كستيليا ألفونسو الذي يتسلّى بهم ويستغلهم لتسليح جيشه... تتعاقب الأحداث في "ملوك الطوائف" حوارا ورقصا وغناء لتكشف عن الكثير من الخيانات والدسائس والمؤامرات والانقسامات التي أدّت إلى ضياع ملك عظيم وتاريخ حافل بالانتصارات...
فقرطبة تحت حصار ملك طليطلة التي يحررها الملك المعتمد ويضع عليها وزيره ابن عمار الذي يطمع فيها ليستأثر بها وعندما يقرر الملك البطش بجيوش ألفنسو للتخلص من سيطرته مستعينا بملك البربر يوسف ابن تاشفين ينتهي نهاية مأساوية... قطعا لم يختر منصور الرحباني هذه المرحلة الهامة من تاريخ الأندلس ليجعلنا نبكي ونندب ملكا ومجدا أضاعه العرب لكنه اختاره ليفجّر الكثير من المعاني ويعيد قراءة الدرس الذي لم يستوعبه العرب، فتاريخ ملوك الطوائف يتشابه في بعض تفاصيله مع الواقع العربي المعاصر ألم تسميهم اعتماد الرميكية "ملوك الطائفية"؟ والاهم من هذا أن الراحل منصور الرحباني لم يكن اختياره لهذا الإطار التاريخي بهدف إنجاز عمل يدخل في باب التوثيق (على أهميته) فالنص والشخصيات لم يكونا سوى محمل أو ركيزة ليسقط تلك المرحلة على ما يحدث الآن على الخارطة العربية من انقسامات وتجاذبات ومؤامرات ذهب فيها إلى حدّ العبث في مشهد القمة العربية التي عقدها الملوك بطلب من المعتمد لفكّ الحصار عن قرطبة ورفضوا التصويت بتعلة أن جيوشهم غير جاهزة للحرب كما رفضوا ارسال المساعدات الإنسانية بتعلة أن خزائنهم مفلسة واقترحوا اصدار بيانات التنديد أو إعداد موشحات أو أناشيد...
وهنا يبلغ العبث منتهاه عندما يشتدّ الخلاف بين الملوك حول هذا التفضيل: موشحات/أناشيد ليتحول مقرّ اجتماع القمة إلى ساحة رقص وغناء الأزجال... "ملوك الطوائف" مسرحية جاءت ملغمة بالرموز وكثيرة الدلالات عبر خطاب فني كتب بشاعرية عالية وسخرية لاذعة أحيانا... العشق، حب السلطة، الاستقواء بالأجنبي، التعنّت، الخيانة...
وتيمات أخرى اشتغل عليها مخرج العمل مروان الرحباني عبر توظيف آليات مسرحية كثيرة أهم عناصرها الغناء والرقص والموسيقى والإضاءة وهي عناصر شكلّت مشهدية رائعة بتواتر اللوحات التي قدمها الراقصون بأزياء وألوان تعيدنا إلى أجواء أندلسية غابرة. غسان صليبا الذي قدم دور الملك العاشق والشاعر الحالم كان في مكانه تماما بتلك الكاريزما وذلك الصوت القوي الذي صرح خلال الندوة الصحفية التي انتظمت صبيحة السبت 13 جويلية 2019 أنه على المسرح يصبح أجمل خاصة مع الرحابنة، علاوة على أنه مع الفنانة هبة طوجي (اعتماد الرميكية ابنة الشعب البسيط التي كانت صوت الحكمة والضمير) تمثيلا وغناء شكلا ثنائيا جميلا بينهما "هارموني" كانت إحدى نقاط قوة هذا العرض... النص من صياغة الأب والموسيقى والتوزيع من وضع الأبناء أسامة وغدي الرحباني... امتداد فني عجيب لا يشذّ عن الإبداع الذي كان منذ سبعينات القرن الماضي عنوانا كبيرا للرحابنة. تعودنا إثر نهاية عرض مسرحي أن نقول (مجازا) أسدل الستار... لكن في نهاية هذا العمل وبسؤال أبطاله عن عرب التاريخ وعرب المستقبل، عن عرب الحاضر الباحث عن مجد يكتبه... هل أسدل الستار فعلا أو رفع ليفجّر الكثير من الأسئلة كاشفا بشاعة هذا الزمن؟