بدايةً.. من هو آلان تورينغ؟
وُلد العالم الإنجليزي آلان تورينغ في 23 يونيو/حزيران 1912، في مايدا فالي بلندن. في سن مبكرة، ظهرت عليه علامات الذكاء، وهو ما أقره بعض أساتذته. عندما التحق تورينغ بمدرسة شيربورن المستقلة في سن الـ13، أصبح مهتماً بشكل خاص بالرياضيات والعلوم. بعد ذلك، انضم تورينغ إلى جامعة كامبريدج بإنجلترا، حيث درس هناك من عام 1931 إلى عام 1934. ونتيجة لأطروحته التي أثبت فيها نظرية الحد المركزي، انتُخب تورينغ زميلاً بالكلية في عمر 22 عاماً. في عام 1936، تابع تورينغ دراسة الرياضيات في جامعة برينستون، نيوجيرسي، وحصل على درجة الدكتوراه. كما طوَّر فكرة «آلة الحوسبة الشاملة» التي يمكن أن تحل الحسابات المعقدة، والتي عُرفت فيما بعد باسم آلة تورينغ، التي تنبأت بالكمبيوتر الرقمي. بعد حصوله على الدكتوراه في برينستون في عام 1938، عاد إلى كامبريدج، ثم شغل وظيفة بدوام جزئي بمنظمة بريطانية لفك الشيفرات.
فك الشيفرات النازية في الحرب العالمية الثانية
في عام 1939، طُلب من تورينغ الانضمام إلى منظمة بريطانية لكسر الرموز والشيفرات، والتي تم نقلها إلى بلتشلي بارك بمدينة ميلتون كينيز الإنجليزية، لكون المقر الرئيسي لعمليات فك الشبفرات النازية في المملكة المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. ففي ذروة القوة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، كانت اتصالات هتلر مع قيادته العليا محميَّة برمز يُعتقد أنه لا يمكن اختراقه. كان أبرز إنجازات تورينغ في بلتشلي بارك هو كسر رمز Enigma، الذي كان عبارة عن آلة تشفير تستخدمها القوات المسلحة الألمانية لإرسال الرسائل بشكل آمن. جنباً إلى جنب مع زملائه، طوَّر تورينغ آلة Bombe، وهي آلة تستند إلى تصميم بولندي سابق، وأصبحت في أواخر عام 1940 قادرة على فك تشفير جميع الرسائل التي أرسلتها آلات Enigma. كان الألمان يرسلون شيفرات بِحُرية أكثر تعقيداً من جهاز آخر يسمى لورينز، فكل من يحاول فك الشيفرة، سيتعين عليه إجراء مجموعة من التبديلات الرياضية يفوق عددها الإلكترونات الموجودة في الكون. لكن في أغسطس/آب 1941، أصبح المشغّل العسكري الألماني مهملاً، وأرسل رسالة متطابقة تقريباً مرتين دون تغيير إعدادات العجلة على آلة تشفير لورينز Lorenz. كان هذا هو اختراق محترفي تشفير الشيفرات فيفي بلتشلي بارك في المملكة المتحدة، وهو ما أعطاهم أدلة حيوية على كيفية عمل آلة تشفير لورينز، وطريقة لكسر الكود في النهاية. أدت الجهود المبذولة في هذا المكان آنذاك، إلى إنشاء كولوسس؛ أول حاسوب قابل للبرمجة على يد البريطاني آلان تورينغ. في ذروة أنشطة بلتشلي في زمن الحرب، كان نحو 10000 شخص يعملون هناك، وكان ثلثا الموظفين من النساء، وكان كثير منهم يعمل في آلات كولوسس بالحديقة.
كيف تمكَّن حاسوب تورينغ من حل شيفرة النازيين؟
كان الكمبيوتر بحجم الغرفة مرصعاً بصمامات توهُّج باللون الأحمر في أثناء عمله، وقراءة الأحرف من الرسائل التي تم اعتراضها من بَكَرات الشريط الورقي، بمعدل 5000 في الثانية. تمكَّن كولوسس من خفض متوسط الوقت الذي استغرقته عملية فك تشفير رسالة الآلة الألمانية لورينز بالكامل من عدة أيام أو حتى أسابيع إلى نحو أربعة أيام. اعترض البريطانيون عشرات الآلاف من الرسائل الإذاعية وحلّوا شيفراتها. قدمت الرسائل معلومات جمة غيَّرت مجرى الحرب بأوروبا، وأنقذت الأرواح في منعطفات حرجة. بعد الحرب، قال الجنرال أيزنهاور إن المعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها في بلتشلي، قد اختصرت القتال مدة عامين على الأقل. تم بناء عشرة إصدارات من كولوسس، ولكن بحلول عام 1960، من أجل الحفاظ على سرية وجود الماكينة، تم تفكيكها بالكامل وإحراق جميع رسوماتها، لذلك لم يكن للجهاز تأثير مباشر على تطوير أجهزة الكمبيوتر المستقبلية. تورينغ..
الأب الروحي للذكاء الاصطناعي
انتقل تورينغ إلى لندن في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، وبدأ العمل بالمعمل الفيزيائي الوطني. من بين أبرز مساهماته في أثناء العمل بالمنشأة، قاد تورينغ أعمال التصميم لمحرك الحوسبة التلقائية، وفي النهاية أنشأ مخططاً رائداً لجهاز حاسوب البرنامج المخزن. على الرغم من عدم إنشاء نسخة كاملة من محرك الحوسبة التلقائية، فقد استخدم مفهومها كنموذج من قِبل الشركات التقنية في جميع أنحاء العالم عدة سنوات. استمر تورينغ في شغل مناصب رفيعة المستوى بقسم الرياضيات، ثم مختبر الحوسبة في جامعة مانشستر بأواخر الأربعينيات. تناول أولاً مسألة الذكاء الاصطناعي في بحثه عام 1950، بعنوان «الآلات الحاسوبية والذكاء»، واقترح تجربة تُعرف باسم «اختبار تورينغ»؛ في محاولة لإنشاء معيار لتصميم الذكاء لصناعة التكنولوجيا. خلال العقود القليلة الماضية، أثر الاختبار بشكل كبير في النقاشات حول الذكاء الاصطناعي.
الشذوذ الجنسي والإدانة والموت
في عام 1952، أبلغ تورينغ عن عملية سطو على شقته، وتبين أن الجاني أرنولد موراي البالغ من العمر 19 عاماً، كان على علاقة جنسية مع تورينغ. ولأن الشذوذ الجنسي كان غير شرعي بالمملكة المتحدة في أوائل الخمسينيات، وُجِّهت إلى تورينغ تهمة الفحش. بعد إلقاء القبض عليه، اضطر تورينغ إلى الاختيار بين السجن وتلقي العلاج الهرموني، للحد من الرغبة الجنسية. اختار تورينغ الاختيار الثاني، وسرعان ما خضع لإخصاء كيميائي من خلال حقن هرمون الاستروجين مدة عام، وهو ما جعله في نهاية المطاف عاجزاً. توفي تورينغ في 7 يونيو/حزيران 1954، وبعد فحص الوفاة، تم تحديد أن سبب الوفاة هو تسمم السيانيد. أفاد تشريح الجثة بوجود آثار السيانيد في المعدة والأعضاء الحيوية. وخلص التشريح إلى أن سبب الوفاة هو الاختناق الناجم عن التسمم بالسيانيد وحُكم بالانتحار.
تكريم تورنغ بعد وفاته
كُرِّم تورينغ بعدد من الطرق، ففي عام 1999، صنَّفته مجلة تايم على أنه واحد من أهم 100 شخص بالقرن العشرين. احتل تورينغ أيضاً المرتبة الـ21 باستطلاع «بي بي سي» في عام 2002 على مستوى البلاد، لأعظم 100 شخصية بريطانية. كما أصدر رئيس الوزراء الأسبق، جوردون براون، بياناً في 10 سبتمبر/أيلول 2009، نيابة عن الحكومة البريطانية، التي اعتذرت عن محاكمة تورينغ على أنه شاذ جنسياً. في مقال لـBBC، في يونيو/حزيران 2012، جادل أستاذ الفلسفة جاك كوبلاند بأن موت تورينغ ربما كان حادثاً نتيجة استنشاق أبخرة السيانيد في أثناء إجراء بعض التجارب. واستند في ذلك إلى عدم الإشارة بروايات «أيام تورينغ» الأخيرة إلى أنه انتحاري، وأن تورينغ كان يستخدم السيانيد في التجارب الكيميائية التي أجراها في غرفة بمنزله. في يوليو/تموز 2019، أعلن بنك إنجلترا أن تورينغ سيظهر على ورقة مالية في المملكة المتحدة الجديدة بقيمة 50 جنيهاً إسترلينياً، إلى جانب صور لأعماله. تم تجسيد حياة تورينغ في فيلم تلفزيوني عرضتة شبكة BBC في العام 2011 ، ثم تم عرض حياته في فيلم سينمائي عالمي سمي The Immitation Game من بطولة بنيدكت كامبرباتش في العام 2014.