«أرقام محبطة»
نشأ الشعار الكئيب لمدينة بولانكا نتيجة للتغيير الديموغرافي الذي يؤثر على تلك المدينة، وهو انخفاض سكاني أدى إلى تغطية سلبية من جانب الصحافة. كما هو الحال في الدول المتقدمة الأخرى، تنخفض معدلات المواليد في فنلندا ويتقدَّم عمر السكان، مما يجعلها تبدو في حالة كئيبة مقارنة بجارتها السويد. توقع أحدث تقرير من هيئة الإحصاء في فنلندا أن عدد السكان سوف يبدأ في الانخفاض في عام 2031، مما يثير مخاوف بشأن تأثير ذلك على نظام الضمان الاجتماعي والصحة. بولانكا من بين المدن التي ستشهد انخفاضاً في عدد سكانها، ويصفها راغالا بأنها «أكثر بلدة فنلندية معزولة في المقاطعة الأكثر عُزلة في البلاد». يبلغ عدد سكان المدينة حوالي 2600 نسمة، يبلغ 37٪ منهم أكثر من 64 عاماً. انخفض عدد سكانها بمقدار النصف منذ عام 1980، بينما تواصل المراكز الحضرية الكبيرة جذب الشباب الذين يتركون البلدات الريفية الصغيرة. يوضح تيمو آرو، الخبير الديموغرافي الفنلندي، أن هناك رابحين وخاسرين نتيجة لهذه التغيّرات السكانية، وبولانكا واحدة من الخاسرين. يقول بكآبة لا داعي لها: «إذا نظرت إلى الأرقام في بولانكا، فهي كئيبة للغاية من جميع الجهات، بغض النظر كيف يفسرونها بصورة إيجابية». يتذكر راغالا فترة في بداية القرن الحادي والعشرين، عندما كانت اشتهرت البلدة إعلامياً، وكان ذلك دائماً بسبب القصص السلبية، ويقول إن حركة الكآبة قد برزت لكونها دائماً أسوأ مثال في أي معلومات متعلقة بالديموغرافيا. «حسناً، نحن الأسوأ، لكننا سنكون أفضل السيئين في فنلندا»، هكذا كانوا يعتقدون. وهكذا جعلوا المدينة مشهورة في الشبكات الاجتماعية وحولوا اسم المدينة إلى وسم ذي شعبية كبيرة.
«أرى أنك لا تزال حياً»
بعد ظهر أي يوم من أيام الأسبوع، يكون مركز المدينة هادئاً ويلفُّه الصمت. تأتي الحافلة ست مرات في الأسبوع من أولو، وهي مدينة صغيرة تبعد 130 كم. في بولانكا، يمكنك العثور على سوقين، وصيدلية، ومحطة وقود، حيث يلتقي السكان المحليون لتجاذب أطراف الحديث وتناول القهوة، وهناك مطعم واحد فقط يقدم الغداء. يعمل معظم السكان بقطاع الخدمات أو في الزراعة. يدير جاكو بافولا، البالغ من العمر 63 عاماً، متجراً لبيع الكتب يقع بجوار دار البلدية، ويتذكر عندما بدا مفهوماً أن تكون الكآبة مقبولة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي العشرين. بدأوا في الاحتفال بـ «ليلة كئيبة»، لإحياء سلسلة من الفعاليات الصيفية المملة. يتذكر بافولا: «جاء الناس ليس فقط لمشاهدة العروض، ولكن للتواصل الاجتماعي». وتابع: «للحفاظ على جو كئيب، كان بعضهم يقول للبعض الآخر: (أرى أنك لا تزال حياً)». شاركت ريتا نيكانين (60 عاماً)، أيضاً، منذ البداية في إعادة التعريف السلبي للقرية: «قال أحدهم إنه لا شيء يُفعل هنا، ولا حتى الاكتئاب». ومع ذلك، فإن ما بدأ كفكرة بين الأصدقاء، نما ليتحول إلى مجموعة من المكتئبين ينظمون الأحداث والمهرجانات المحلية في جميع أنحاء فنلندا. خلال تلك السنوات، أدّت نيكانين، التي تعمل ممرضة بالمركز المحلي لرعاية المسنين، أدواراً رائدة في المسرحيات الموسيقية والمقاطع المنشورة على الإنترنت.
الكآبة مصدر للربح
بعد ما يقرب من عقد من العمل، تفككت رابطة المكتئبين في عام 2016، بسبب انخفاض عدد أعضائها. ولكن بعد وقت قصير، عيّنت السلطات المحلية راغالا، الذي نشأ في بولانكا ولكنه عاش 20 عاماً بمدن أخرى وخارج فنلندا. تتمثل مهمته في تطوير الخدمات البلدية عبر الإنترنت، وكذلك في الحفاظ على سمة «الكآبة» وتطويرها للمساهمة في الصورة التجارية للمدينة. في مقطع الفيديو الأول الذي صنعه كجزء من عمله، يأخذ راغالا المستخدمين بجولة ساخرة في بولانكا. حصلت هذه الدعابة السوداء على 200 ألف مشاهدة على الشبكات الاجتماعية، وحصل الفيديو التالي على نصف مليون مشاهدة. يقول راغالا: «عادة ما يجعل الترويج الأشياء تبدو أفضل مما هي عليه». وأضاف: «أفضل ما في الكآبة هو أنك لست مضطراً إلى الكذب». في هذا الفيديو، على سبيل المثال، يشرح راغالا بطرق فكاهية مختلفة، كيف تبدو الحياة في بولانكا: لم يعد راغالا يعمل في دار البلدية، لكنه يواصل قيادة رابطة المكتئبين، وهي مجموعة غير ربحية يديرها متطوعون. تعمل الرابطة بمساعدة عائدات المبيعات عبر الإنترنت وبعض الفعاليات، بالإضافة إلى مِنح للمهرجانات الصيفية التي تمنحها البلدية والاتحاد الأوروبي. ويستمرون في صنع مقاطع الفيديو. بعد هجرة النساء.. تطبيق Tinder للمواعدة يأتي بنتيجة صادمة في بولانكا وفقاً للأرقام، تميل النساء إلى الهجرة إلى مدن أخرى أكثر من الرجال، والنتيجة هي أن الرجال يمثلون ثلثي السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة. يقوم نيكو، البطل الذي يفتقر إلى خصال الأبطال التقليدية، والذي يلعب دوره أنتي راينين، ببطولة سلسلة من مقاطع الفيديو التي يسافر فيها إلى المدينة بحثاً عن النساء. في أحد المقاطع، سجَّل في تطبيق Tinder للمواعدة، وكانت النتيجة مفاجأة. نظراً إلى نقص الخيارات، عثر التطبيق على خيار يتناسب مع اهتمامات نيكو: والدته. يقول راغالا: «ليست مزحة حميمية، لكنها بدأت مع اعتقاد أن المرأة الوحيدة في بولانكا هي والدتك». يعتقد راغالا أن بولانكا بدأت تعيش فصلاً كئيباً جديداً. تعمل الشبكات الاجتماعية على تضخيم هذه الصورة، ويتلقى المتجر الإلكتروني طلبات شراء القمصان مع عبارات مطبوعة مثل «عجوز عابس». استقطب مهرجان الموسيقى في الصيف الماضي جمهوراً محلياً، وهي مناسبة ستتكرر بالتأكيد في فترة الصيف القادمة. ستكون هناك مساحة مخصصة للكآبة متاحة للزوار الذين يعبرون المدينة. في المستقبل، يود راغالا أن يرى المكتئبين على أغلفة المجلات. يقول: «لقد فعلنا فقط ما هو ممتع بالنسبة لنا».
هل تكفي التغييرات التي حدثت للمدينة؟
يعتقد تيمو آرو أن دوامة انخفاض عدد السكان في مدن مثل بولانكا ستستمر. يقول: «تنتظر عديد من الأماكن، مثل هذه المدينة، التغيير الكبير». يتحدث البعض عن حركة «الارتداد الحضري» التي ستشجع الناس على تجنُّب المدن، لكن هذا لم يحدث حتى الآن. يعتقد آرو أن هذه المدينة لعبت بأوراقها بشكل جيد للغاية. يقول: «على الرغم من أن جميع الأرقام تدل على أن هذه المدينة أصبحت في أسوأ مكان، استمرت الرغبة في تحويل هذه المحنة إلى مورد مشترك». يشعر رئيس البلدية هاري بلتولا بمزيد من الأمل؛ إذ إنه يعتقد أن بيئة وطبيعة بولانكا الهادئة ستجذب كثيرين. في الواقع، توفر الغابات المحيطة بها تنوعاً طبيعياً كبيراً، في حين تقع هيبوكونغاس، وهي واحدة من أعلى الشلالات في البلاد، على بُعد مسافة قصيرة. هناك كثير من الثلج، والهواء النقي. حتى لو كان الناس لا يعيشون هنا بشكل دائم، فإن كثيراً من السكان يمتلكون كبائن صيفية، كما يتضاعف عدد السكان خلال العطلة الصيفية. التحدي هو إبراز عناصر الجذب في بولانكا. يقول: «عليك أن تقدم شيئاً يهتم به الناس، وأعتقد أن كآبتنا قد نجحت بكفاءة حتى الآن«.
أيامها أصبحت معدودة
على الرغم من أن راغالا يعتقد أن هناك كثيراً مما يمكن عمله بهذه السمة التي تميّز قريته، فإن هذا لا يمنعه من رؤية أن أيام قريته الصغيرة أصبحت معدودة. فهو رجل كئيب لن يخيّب أملك أبداً. يقول: «إذا كنت تعيش هنا، وتحلم بكيفية جعل بولانكا أفضل، وكيف ستجلب مزيداً من الناس، فأنت تحارب طواحين الهواء». يقول وهو يدندن بتفاؤل بشكل مثير للريبة: «لكن إذا قبلت الحقائق كما هي، واستخدمتها لتحقيق أهدافك، فإن العيش هنا سيكون أمراً ممكناً تماماً».