الكاهنة ديهيا.. يهودية أم عابدة للأوثان؟
هناك خلاف على ديانة الملكة ديهيا التي وُلدت في عام 585م وحكمت شمال إفريقيا مدة 35 عاماً بعد وفاة ملك البربر «كسيلة». فبعض الرواة قالوا إنها كانت وثنية تعبد صنماً من خشب، وتنقله على جَمَل، وقبل كل معركة تبخّره وترقص حوله، فيما قال آخرون إنها كانت تدين بالعقيدة اليهودية. فقد روى الكاتب اليهودي شلومو ساند مثلاً أن قبيلة الكاهنة كانت قبيلة من عِرق بني إسرائيل، وأن الكهان اليهود الذين قادوا القبيلة قدموا إلى بلاد النيل في زمن حكم يوشع، ثم انتقلوا إلى ليبيا فجبال الأوراس. وروى كذلك أن ديهيا كانت من عائلة الرهبان، وبالرغم من أن العادات اليهودية لا تسمح للمرأة بأن تكون كاهنة، فإن التأثير الكنعاني كان مسيطراً على القبيلة آنذاك. وعن سبب تسميتها بالكاهنة، يرى ابن خلدون أن ديهيا «كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوال قومها، ما جعلها تتولى عرشهم». لكنَّ مؤرخين آخرين يرون أن العرب حاولوا تبخيس نصرها عليهم باتهامها بالسحر والشعوذة.
وحَّدت قبائل الأمازيغ المشتَّتة
يقال إن البربر أجمعوا على تولية «ديهيا» أمرهم بعد وفاة ملكهم «كسيلة»، فقد كانت التقاليد الأمازيغية القديمة تقتضي أن يقوم مجلس القبائل بالتصويت عند وفاة الحاكم لاختيار حاكم جديد. فقد استطاعت -بما عُرف عنها من حكمة وقوة- توحيد القبائل الأمازيغية تحت رايتها لمواجهة الرومان ومن بعدهم العرب المسلمين، بالرغم من أنها اعتلت عرش الأمازيغ في عام 680م أي عندما كانت تبلغ من العمر 95 عاماً. قادت ديهيا التي اشتهرت بذكائها ودهائها الحربي حملات عديدة ضد الرومان الذين كانوا يحتلون جزءاً كبيراً من الأراضي البربرية منذ أواخر القرن السادس الميلادي، واستطاعت فعلاً استعادة أراضي البربر مُكبِّدة الروم البيزنطيين خسائر فادحة. وتوسَّعت مملكتها لتشمل الجزائر والمغرب وتونس وليبيا متخذةً من مدينة خنشلة في الأوراس عاصمة لها.
حربها مع حسان بن النعمان
بدأ الزحف الإسلامي يستهدف شمال إفريقيا بقيادة حسان بن النعمان الذي كلَّفه الخليفة الأموي آنذاك عبدالملك بن مروان ببدء الفتح الإسلامي في تلك المناطق. وفي عام 693م واجهت ديهيا جيش ابن النعمان في معركة بجاية، واستطاعت أن تهزمه مجبرةً إياه على الخروج من تونس وطرابلس ليستقر في برقة الليبية منتظراً المَدَد من الخليفة الأموي. ويروى أن هدف الملكة ديهيا لم يكن معاداة المسلمين، بل إخراجهم فقط من الأراضي الأمازيغية، والدليل على ذلك أنها لم تخرب القيروان أو تقتل المسلمين الموجودين هناك عندما خرج جيش حسان بن النعمان منها. كما أنها أفرجت عن الأسرى من المسلمين وعددهم 80 أسيراً، مع الإبقاء على واحد منهم فقط هو خالد بن يزيد القيسي؛ حيث قامت ديهيا بتبنيه وأخذته للإقامة معها هي وأبنائها بالتبني (عددهم اثنان أحدهما أمازيغي والآخر يوناني كما يروي المؤرخون).
سياسة الأرض المحروقة
بعد خمس سنوات من تراجع حسان بن النعمان أمام جيش الملكة ديهيا، قرر القائد المسلم متابعة زحفه لاسترداد الأراضي التي خسرها بعد أن أعاد تهيئة جيشه ووصله المَدَد من الخليفة الأموي في الشام. وأثناء تلك السنوات الخمس كان خالد بن يزيد الذي احتفظت به ملكة الأمازيغ يمد حسان بن النعمان بمعلومات عن الأوضاع الاقتصادية في جبال الأوراس وعما يدور في قصر ملكة الأمازيغ. وعندما علمت الملكة ديهيا أن الزحف العربي قادم، وأنها هذه المرة لن تستطيع صده كما في السابق قررت اتباع سياسة الأرض المحروقة. فمن وجهة نظرها فإن العرب يطمعون بخيرات أراضي الأمازيغ، فأمرت بقطع الأشجار وهدم الحصون وحرق المحاصيل من طرابلس إلى طنجة، الأمر الذي أثار غضب الأفارقة الذين بدأوا يعتقدون أن الملكة قد جُنَّت.
معركة «بئر الكاهنة»
بعد أن انتصرت عليه في بجاية، استطاع حسان بن النعمان هزيمة الملكة ديهيا والقضاء على جيشها في معركة حملت اسم «بئر الكاهنة». باتت الملكة ديهيا شخصية شعبية وسط النشطاء الأمازيغ، حتى إنهم شيدوا تمثالاً يُحيي ذكراها في مدينة خنشلة في الجزائر. حتى العرب مع اختلاف آرائهم حولها، تحدَّثوا عن قوتها وشجاعتها وشدة بأسها في الحروب، فقد ذكرها ابن خلدون قائلاً: «ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأتِ بمثلها زمان، كانت تركب حصاناً وتسعى بين القوم من الأوراس إلى طرابلس، تحمل السلاح لتدافع عن أرض أجدادها».