نعم خرج الآلاف من الفلسطينيين إلى الحدود رفضا لكل حالة سلب وسرقة للأرض والهوية في القدس وباقي المدن الفلسطينية. ليس منّة أن يعترف المرء بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، فهذه أرضه المحتلة منذ أكثر من سبعين عاماً.
ما جرى في غزة يجب التوقف عنده طويلا لنعرف مدى التخبط الداخلي والتلكُّؤ العربي العام في تناول المسألة الفلسطينية المستعصية على الحل في ظل عالم “يستنكر ويندد” بالمجزرة، ويصطف في النهاية إلى جانب إسرائيل “لأنها تدافع عن نفسها”.
وما جرى في القدس من افتتاح مقر السفارة الأميركية هو تهاون واضح من قِبَل الساسة العرب وإنهاء لما يسمى اتفاقات السلام مع إسرائيل. خروج الناس في غزة هو انتصار للقدس والهوية والعودة. نعم جاء هذا المد الجماهيري ليؤكد للعالم حقيقةَ أن الشعب الفلسطيني ما زال يتنفس بعد طول معاناة على مدار سبعين عاماً.
خرج الشعب بعد أن أرادوا أن يغرسوا رأسه في التراب ويعلن استسلامه لكل مشاريع التصفية منذ اتفاقات أوسلو مرورا بمفاوضات كامب ديفيد التي اقتنع خلالها زعيمهم الشهيد ياسر عرفات بأن “لا حلول سلمية” مع محتل يغتصب يوميا الأرض ويكتم الأنفاس ولا يريد من العالم سوى أن يسمع صوته القذر.
نعم الشعب قال كلمته في مسيرات غزة وبأعلى صوت: لن نركع وستبقى القدس عربية.
لا يهم من ذا الذي حرّك جماهير غزة للانطلاق صوب السياج الحدودي الذي بناه أرييل شارون في ثمانينات القرن الماضي، ليفصل قطاع غزة عن باقي الأراضي المحتلة عام 1948، ومن أراد أن يستغل “مصيبتهم” فسيكون له التاريخ بالمرصاد؛ فأحكام التاريخ أكثر إنصافا وأشدّ عقابا.
الفلسطينيون اليوم غير أولئك الذين حملوا البندقية حين أخطأوا وأصابوا منذ انطلاق ثورتهم عام 1965 من ميادين الأردن وسوريا ولبنان؛ اليوم هم مختلفون كثيرا، فالجيل الصاعد الآن أكثر ذكاء، يعرف أن الساسة الذين يتحكمون فيه “أغبياء” لا يفقهون في السياسة ولا يستغلون الفرص المتاحة لتحقيق وحدة وطنية كاملة ومتكاملة تنهي أطول فصل من فصول الاقتتال الداخلي.
مَن تحرّك صوب حدود غزة يهدف إلى إعادة القضية إلى المربع الأول، مربع إعادة الحق الذي أرادت كل متغيرات الشرق الأوسط أن تنهيه وتُنسي الأجيالَ العربيةَ القادمةَ إياه.
جاء تحرك الفلسطينيين لإعادة فرض قضية “حق العودة” من جديد وقلب طاولة كل المؤامرات والاتفاقيات العلنية والسرية التي تتم في الغرف المغلقة وتستهدف تصفية قضيتهم. وحتى لا نبالغ يمكن القول إنهم أيضا يطلبون السلام وإنهاء كل الفوضى لكن بشروط تحفظ حقوقهم.
هؤلاء الذين خرجوا يعرفون أن رئيسهم الذي يعيش في مقر “المقاطعة” يُزمع على اتخاذ قرارِ قطعِ علاقات سلطته بإسرائيل عشرين مرة في الساعة ولا يتخذه في النهاية. ويعرفون أن حماس تتاجر بدمائهم وأن كل هؤلاء المحيطين بدولتهم المحتلة خذلوهم على مدار أحد عشر عاما من الحصار والتجويع والقتل.
وضع غزة وحده كفيل بتحريك جيوش. لا يحتاج سكان غزة إلى تجييش حماس لهم حتى ينظّموا مسيرات، وضعهم المأساوي هو المحرك الأساسي لهم، لا هواء نقيّا يتنفسونه ولا مرافق حياة جيدة، ووضع اقتصادي منهار وبطالة متفشية وفقر وجوع. فكيف يُطلَب مِن أناس يموتون في اليوم ألف مرة أن يصمتوا على حصارهم وجوعهم وقهرهم وأن تدنس قدسهم وعاصمتهم الأبدية؟
ما جرى على حدود غزة ألمٌ مبرّح يصيب كل بيت فلسطيني في الداخل والخارج؛ فالفلسطينيون اليوم انتصروا بإعادة القضية إلى أساسها الصحيح. وهل ينسى هؤلاء معاناتهم اليومية المريرة وهم يعيشون في صندوق صغير ولا يتنفسون فيه إلا لمامًا؟ نعم يتنفسون بصعوبة في قطعة أرض صغيرة. ألمهم شديد وألم القدس أشدّ.