الرئيس الأمريكي، جو بايدن، كان مطلوباً منه إصدار تصريح دراماتيكي للمرة الثانية خلال يومين. وحسب خطابه، الثلاثاء، كان بايدن يعرف جيداً أنه سيضطر، الخميس، للوقوف مرة أخرى للتحدث أمام أمريكا والعالم. وأعلن بأن الثمن الذي سيجبيه من روسيا سيكون باهظاً، وأعلن عن إضافة عقوبات إلى العقوبات التي فرضت الثلاثاء، وستدخل حيز التنفيذ خلال أيام. لقد تجنب في هذه المرحلة فصل روسيا عن السويفت (الهيئة الدولية للتبادل المالي بين البنوك)، لكنه أعلن عن منع وصول البنوك والشركات الروسية إلى الأسواق المالية، الأمر الذي يعتبر تقييداً مهماً للوصول إلى الدولار وعقوبات على تصدير التكنولوجيا لروسيا. العقوبات الفعالة أمر ذو وجهين. التوصل إلى قائمة متفق عليها قابلة للتطبيق وتلبية المتطلبات الزمنية، هي خطوة دبلوماسية معقدة. ومن يستخف بالعقوبات التي فرضت إنما يجهل التداعيات المدمرة على اقتصاد روسيا، الضعيف والهش أصلاً.
بوتين يشبه نفسه ببطل في الرواية الوطنية الروسية، لذلك هو يدير حرباً ضروساً ضد الديمقراطية الغربية. هو لا يحاول تأسيس الاتحاد السوفييتي من جديد، بل إعادة روسيا الحالية، التي -حسب رأيه- تم إذلالها وتصغيرها وإساءة وضعها من قبل الولايات المتحدة والغرب، إلى أمجاد روسيا القيصرية الكبرى. واستناداً إلى مقال طويل نشره في تموز وإلى خطاباته الأخيرة، فهذا هو هدفه التاريخي. قد يكون طويلاً ودموياً له انتصارات تكتيكية مؤقتة. وربما ينسب بوتين “1812” إلى تشايكوفسكي ولا يسمع العالم. وربما أن هذه المعركة ستحدد بداية نهايته.
غزو أوكرانيا ليس الهدف بحد ذاته، بل هو جزء من خطة كيرة، وثمة شك بأن تتحقق أو أن تعود روسيا للسيطرة على شرق أوروبا قبل 1991، لكن على خلفية سلوكه ورؤيته التاريخية، فإن السؤال الكبير والرئيسي في هذه الأثناء هو: ما هو هدفه النهائي؟ وهل سيوسع الغزو إلى مولدوفا ودول البلطيق؟
من اعتقد أن هدف بوتين هو خلق تهديد على أوكرانيا وإدارة أزمة والذهاب إلى الحافة للتوصل إلى مفاوضات دبلوماسية حول الهندسة الأمنية لأوروبا، فهو مخطئ. ومن اعتقد أن بوتين بعد أن أخطأ في تقدير تصميم الولايات المتحدة والناتو وتم إجباره على الاختيار بين بدائل سيئة، سيكتفي بضم جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا، فهو مخطئ. ومن اعتقد أنه سيرتدع من هجوم شامل على أوكرانيا بسبب تهديد العقوبات، مخطئ. شنت روسيا هجوماً متزامناً في خمس جبهات؛ هدف العقوبات الأمريكية من البداية لم يكن الردع، بل العقاب، ولم تفرض العقوبات الثقيلة في الوقت الذي ظهر فيه الغزو في بدايته.
كانت المخابرات الأمريكية على حق ودقيقة، وكانت التقديرات الأمريكية التي استندت إليها عقلانية. قرار الإدارة الأمريكية تسريب مواد استخبارية ضئيلة عن نية روسيا وطرق عملها المحتملة، تبينت صحته. الأربعاء، نشر البنتاغون تقديراً محدثاً بحسبه تشير بنية القوة الروسية وانتشارها على طول حدود أوكرانيا إلى نظام هجومي مدعوم بقاذفات صواريخ وذخيرة ووقود، واستناداً لهذه المعطيات فإن عملية عسكرية واسعة تبدو مرجحة خلال فترة قصيرة جداً. على أساس هذا التقدير، قال بايدن الثلاثاء، إن الهدف العسكري وأهداف روسيا السياسية تمتد أكثر بكثير من ضم لوهانسك ودونيتسك. لم يقدم بايدن كل التفاصيل عن تقدير واشنطن: بوتين ينوي الغزو بقوة كبيرة، وإحداث فوضى في أوكرانيا وعدم يقين بالنسبة لهدفه النهائي، وإسقاط الحكومة وخلق مشكلة سياسية. وحول سؤال: هل ستكون المرحلة التالية احتلال مالدوفا، وإلى أي درجة يبدو بوتين مستعداً للمراهنة، واقتحام دول البلطيق جزئياً؟ لم يقدم التقدير اجابة قاطعة، لكن توقع واشنطن هو أن بوتين لن يرتدع عن مس مباشر لدول أعضاء في الناتو.
بولندا ودول البلطيق، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا، طلبت أمس عقد مجلس الناتو فوراً حسب البند الرابع في ميثاقه الذي يبرر إجراء نقاش واتخاذ قرارات “عندما تشعر أي دولة عضوة فيه بأن سلامتها الجغرافية واستقلالها السياسي والأمني مهددان”.
من ناحية المخابرات ومخططي السياسة في واشنطن، فإن توسيع الحرب إلى دول البلطيق هو سيناريو يفحصه بوتين أو سيفحصه إذا كان ينوي القيام بعملية استراتيجية واسعة تستهدف مجال نفوذ جيوسياسي بالقوة. خلافاً لأوكرانيا، فإن دول البلطيق وبولندا أعضاء في الناتو، ومهاجمتها ستفعل بشكل أوتوماتيكي البند الخامس الذي يتطرق إلى “الدفاع الجماعي”، مهاجمة أي عضو من أعضاء الحلف يعني مهاجمة الحلف كله. المعنى هو أن دخول روسيا، مهما كان صغيراً ومحدوداً، يعتبر هجوماً على الولايات المتحدة.
الأدميرال جيمس ستفاريدس، الذي كان في السابق قائد الناتو، اقتبس عن أيان فليمنغ، مؤلف روايات جيمس بوند، الذي قال بأنه عندما يطلق عليك شخص النار للمرة الأولى فهذا صدفة، وفي الثانية تلاقي صدف، وفي الثالثة عدو.
أوكرانيا 2022 هي المرة الثالثة لبوتين، بعد غزو جورجيا وضم جنوب أوستيا وأبخازيا في 2008 وغزو أوكرانيا وضم القرم في 2014. كما يقول سافريدس في مقال نشره في صحيفة “التايم” الذي كتب قبل الغزو الكبير، يجب أن يكون الرد شديداً جداً، بما في ذلك الانفصال عن السويفت. مساء أمس، حتى قبل أن يرد بايدن رسمياً، دعا رئيس حكومة بريطانيا، بوريس جونسون، إلى فصل فوري لروسيا عن هذا النظام، رغم أن المستشار الألماني أولاف شولتس، طلب انتظار مناقشة قرار المجلس الأوروبي.
إن تحفظ المستشار الألماني أقنع الرئيس بايدن بالانتظار قبل اتخاذ هذه الخطوة التي تعتبر السلاح الأخير من العقوبات. ويدور الحديث عن تأثير على شركات روسية أو أصحاب رؤوس أموال، الذين يحتاجون إلى عمليات تحويل الأموال وإدارة أعمال دولية، وعقوبة دراماتيكية بحد ذاتها، وعلى قدرة روسيا على تصدير الغاز والنفط. مساء أمس، كمقدمة لتصريح بايدن وعقب محادثة بمشاركته، أعلن منتدى “جي 7” عن “عقوبات ستقلق روسيا.
من المرجح أن روسيا ستسيطر على أوكرانيا خلال أيام، أوضح، ومن المرجح أيضاً أن حرباً خاطفة وناجحة لن تمنع معركة طويلة، ستجبي ثمناً باهظاً من روسيا. السؤال هو: هل سينتهي ذلك هناك؟ سيتضح الجواب في الأسابيع المقبلة. وفي حالة لم ينته هناك، فإن ما كان “أزمة أوكرانيا” وتحول إلى “حرب أوكرانيا” سيتحول إلى حرب أوروبية.