بعض الجوائز تذهب الى من يستحقونها وبجدارة، لمساهمة الذين حصلوا عليها في طرح السؤال الفلسطيني بقوة على طاولة التأمل والنقاش المحلي والعالمي الأوسع ضمن رؤية فنية متسقة مع أسئلة المصير الفلسطيني في مختلف مناحيه وتعرجاته وحيثياته العميقة في الزمان والمكان. والبعض الآخر تحرك في دائرة المصلحة الشخصية المستجدية للمكانة والنجومية، والباحثة عن الجوائز، في ظل مناخ تتحكم فيه العلاقات العامة، ويسيطر عليه انتهاك المعايير ، وتغيب عنه النزاهة، مما ساعد فئة من الفلسطينيين ( فنانين وكتاب ومنشطين ثقافيين ومدراء مؤسسات ومهرجانات فنية) على احتلال مساحة متسعة في المشهد الثقافي الفلسطيني، تحت يافطة (الحضور الفلسطيني في المشهد الفني العالمي).
اتخذ شراء الذمم والمواقف والضمائر في عصرنا شكلًا آخر يختلف عما كان يجري في العصور السالفة، حيث كان الشعراء يحظون بالعطايا من الخلفاء والملوك والأمراء في جلسات المدائح وحلقات التمجيد والنفاق والاستجداء والتملق والبحث عن الرضا والوجاهة. أما في هذا العصر فيتم الحصول على العطايا والمنح والجوائز من مؤسسات تمويل ضخمة، تختار لجان تحكيم خاصة تضع الأنظمة والمعايير والشروط التي تضبط آليات عملها في مختلف مراحل الترشيح حتى لحظة الإعلان عن الفائزين. وتكون المعايير والضوابط في نُصوصها وآلياتها نزيهة وموضوعية، ولكنها عند التنفيذ والدخول في مراحل الاختيار ،لا تخلو من انحيازات تفرضها اعتبارات غير فنية او مهنية أو وطنية. وقد تُستبعَد بعضُ الأعمال من قائمة الجوائز، لأن سردها تمَّت صياغَتُه من منظورٍ نقديٍّ للنظام الحاكم او الاستعمار او الاحتلال، أو لأن المبدع المرشح للجائزة ينطلق في مجمل أعماله من موقع فكري نقديٍّ تحرري جذري.
وعلى الرغم من الانتقادات التي قد توجهها هذه الفئة للجوائز ومموليها إلا أنه عندما تتاح لهم الفرصة يتهافتون عليها ويلهثون خلفها، لأن للجائزة اغراءاتها التي لا تُقاوَم، ولأن لها سَطوتها التي تجعل من الحائز على الجائزة مرجعية ونموذجًا ومُلهِمًا ونجمًا لامعًا جاهزًا على الدوام للترشح دون منازع لأعمال فنية قادمة، أو لجوائز أخرى كبرى، ظنًا منه أنه حصل على صكِّ الحضور الأبدي في المشهد، بغض النظر عن الأسباب والظروف التي مهَّدت له طريق الحصول على الجائزة او التنازلات التي قدمها، والثمن الذي دفعه فنيًا ووطنيُا وأخلاقيًا من أجل الحصول على الجائزة.
ولا يقتصر أمر الانصياع لشروط رأس المال على الجوائز ، بل ينطبق أيضًا على المنح المقدمة للمشاريع التي يتم تنفيدها في المؤسسات الثقافية والاجتماعية، التي تكون في بعض الأحيان صريحة وواضحة في شروطها وإملاءاتها، وخصوصًا الشروط السياسية. وفي أغلب الأحيان لا تكون مشروطة بشكل مباشر على مستوى الشكل او المضمون، إلا أنها تفرض شروطها من خلال الإطار العام الذي تحصُر فيه أهداف المنح، فتفرِض على المؤسسات بشكل غير مباشر إعادة صياغة أولوياتها بما يتطابق مع أهداف وأولويات الجهات المانحة. وفي غمرة المواءمة والتكيف والتجاوب، تتسع الفجوة بين الاهداف الاساسية والفرعية للمؤسسة، ويصبح الهمُّ الرئيس لديها هو المحافطة على وجودها، والإبقاء على موقعها في المشهد، والتأكيد على الحضور واللمعان والسطوع للمؤسسة وإدارتها العليا، وترسيخ صفات التميز والكفاءة والاقتدار، بغض النظر عن المضمون والقيمة الثقافية والفنية لما يتم تقديمه للجمهور والخدمات الفعلية التي تلبي الحاجات المجتمعية، وتتناغم مع الاهداف المركزية، وتلتصق بأحلام وأهتمامات وميول وأذواق الناس.
بفعل الامتيازات والفرص المتاحة والمكاسب المتحققة من خلال التواصل والتنسيق وبناء العلاقات الشخصية والمنفعية مع أصحاب النفوذ والقرار ومصادر التمويل التي تُغذّي المشهد الثقافي السائد، استطاعت هذه الفئة بناء جبهة من المستفيدين، تقف بالمرصاد، وبكل ما يتوافر لديها من وسائل وأدوات حشد، أمام المناهضين للتطبيع، عندما يُعلِنون مواقفهم الاحتجاجية ضد نهج التطبيع. حيث يتم إشهار بطاقة تحذيرية في وجوهِهم لِلَجم أفواهِهم من خلال اتهامِهم بأنهم يمارسون الارهاب الفكري، ويقمعون حرية الرأي والتعبير، فيُوضَع هؤلاء المناهضين للتطبيع بذلك أمام خيارين: الإنكماش والتراجع والسكوت خوفًا من تهمة ( التخوين والارهاب والقمع). أو الاصرار على إعلاء صوتهم المناهض للتطبيع، وعدم التراجع والتحَرُّج من التُّهم الجاهزة لهم عند اكتشاف نشاطٍ او عملٍ فنيٍّ تطبيعي، وإشارتهم إليه ولو بمجرد التلميح. حتى يصبح الرئيسي وفقًا لهذه الفئة هو صراع بين مناهضة التطبيع، وبين حرية التعبير، أو بين (المنع) و (السماح)، كعدوين لدودين يسيران على خطين متوازيين لا يلتقيان.
وبنفس الطريقة تعمل هذه الفئة على لَجْم ومحاصرة من ينتقدون أداء العاملين في الثقافة والفن، أو يطرحون آراء لا تروق لمن ينتجون عملًا فنيًا معينًا، ولا يتقبلون هذه الآراء، ويعتبرون النقد السلبي هجومًا او تشهيرً ا و تجريحَا . وتُلاحِق المنتقدين تهمةُ التخلّف والفاشيّة والطغيان والظلامية والجهل والداعشية ومعاداة الثقافة والفن والحريات. ويُوضعون تحت طائلةِ الإتهام بأنهم يُحَرِّضون على هَدر ِ دَمِ المبدعين، ويُعرِضُّون حياتهم للخطر، فقط لأن هذه المواقف تنطلق من تعددية الأذواق، ومن النقد الجامع بين الفني والوطني والاجتماعي. و لأنها تختلف في تقييمها للمنتج الفني عن آراء وأفكار ورؤى هذه الفئة، التي قررت الانفصال عن ثقافة وتراث وذائقة وأحلام الناس، وتغرق في نخبويتها الشكلانية المصطنعة والمتعالية. والتي لا تحاور ثقافة الآخر أو تساجله، بل تتماهى معه بشكل أعمى فاقد للعقلانية والقراءة الموضوعية للتباينات الكبيرة في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتسعى هذه الفئة الى حَرق المراحل وتجاوز الواقع بتعَسُّفٍ وكَبْسَة زر ، وترى أن على المجتمع بكل مكوناته أن يستنسخ ثقافة الآخر ، ويطرح أسئلته، ويعيد صياغة أولويات المجتمع وِفق أولويات الآخر ، مهما كانت بعيدة عن أولويات المجتمع، وأن يتصدى لإثارة قضاياه مهما كان حجم الفجوة القائمة بين قضاياه وقضايا الناس، وإلا سوف يبقى رازحًا تحت تصنيف الجاهل والمتخلف والبدائي.
يرى بعض المثقفين النقديين أن هذا التيار الآخذ في الاتساع هو تعبير حي عن رؤية استعلائية استشراقية تدَّعي احتكار الخيال والجمال والذوق والرؤيا والإبداع والتميز والريادية وبراعة التخطيط ودقة التنفيذ، وتحتقر الجماهير والناس ولا تراهم الا مستهلكين ومستقبلين ومتلقِّين، ينحصر دورهم في أن يكونوا فئة مستهدفة فاقدة للدور والفاعلية والتأثير.
كان المتوقع أن تلعب الجوائز والمنح دورًا ايجابيًا كبيرًا في تنمية وتطوير العمل الثقافي، إنسجامًا مع طموحات وأحلام الجماهير ، وتناغمًا مع المشروع التحرري الثقافي والاجتماعي المنطلق من بنية وواقع المجتمع، الا أن ما تقوم به فعليًا هو المساهمة في خلق فئة من المثقفين الاستعلائيين القابعين في أبراجهم العاجية، والمنفصلين في برامجهم ورؤاهم وتوجهاتهم عن نبض مجتمعهم، واللاهثين خلف الاغراءات والامتيازات والجوائز والمنح، فبقيت هموم الناس وأسئلة الواقع ونبض الحياة الدافق في واد، و هذه النخبة المتعالية في واد آخر .
خالد الغول / القدس